﴿وَسَوَآءُ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ﴾ أي : مستو عند أكثر أهل مكة إنذارك إياهم وعدمه لأن قوله :﴿ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ﴾ وإن كانت جملة فعلية استفهامية لكنه في معنى مصدر مضاف إلى الفاعل فصح الإخبار عنه فقد هجر فيه جانب اللفظ إلى المعنى ومنه "تسمع بالمعيدي خير من أن تراه" وهمزة الاستفهام وأم لتقرير معنى الاستواء والتأكيد فإن معنى الاستفهام منسلخ منهما رأساً بتجريدهما عنه لمجرد الاستواء كما جرد حرف النداء عن الطلب لمجرد التخصيص في قولهم :"اللهم اغفر لنا أيتها العصابة" فكما أن هذا جرى على صورة النداء وليس بنداء كذلك ﴿ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ﴾ على صورة الاستفهام وليس باستفهام ﴿لا يُؤْمِنُونَ﴾ (نمى كردند ايشان كه علم قديم موت ايشان بر كفر حكم كرده است بسبب اختيار ايشان) وهو استئناف مؤكد لما قبله مبين لما فيه من إجمال ما فيه الاستواء.
قال في "كشف الأسرار" : أي من أضله الله هذا الضلال لم ينفعه الإنذار.
ـ روي ـ أن عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى دعا غيلان القدري فقال : يا غيلان بلغني أنك تتكلم في القدر فقال : يا أمير المؤمنين إنهم يكذبون عليّ قال : يا غيلان اقرأ أول سورة يس إلى قوله :﴿أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ﴾ فقال غيلان : يا أمير المؤمنين والله لكأني لم أقرأها قط قبل اليوم أشهدك يا أمير المؤمنين أني تائب مما كنت أتكلم به في القدر فقال عمر بن عبد العزيز : اللهم إن كان صادقاً فتب عليه وثبته وإن كان كاذباً فسلط عليه من لا يرحمه واجعله آية للمؤمنين قال : فأخذه هشام بن عبد الملك فقطع يديه ورجليه قال بعضهم : أنا رأيته مصلوباً على باب دمشق.
دلت الحكاية على أن القدرية هم الذين يزعمون أن كل عبد خالق لفعله ولا يرون الكفر والمعاصي بتقدير الله تعالى وقال الإمام المطرزي في "المغرب" : والقدرية هم الفرقة المجبرة الذين يثبتون كل الأمر بقدر الله وينسبون القبائح إليه سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً.
ولما بين كون الإنذار عندهم كعدمه عقبه ببيان من يتأثر منه فقيل :
﴿إِنَّمَا تُنذِرُ﴾ أي : ما ينفع إنذارك ﴿مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ﴾ أي : القرآن بالتأمل فيه أو الوعظ والتذكير ولم يصر على اتباع خطوات الشيطان ﴿وَخَشِىَ الرَّحْمَـانَ بِالْغَيْبِ﴾ أي : خاف عقابه تعالى والحال أنه غائب عن العقاب على أنه حال من الفاعل أو الحال إن العقاب غائب عنه أي : قبل نزول العقاب وحلوله
٣٧٣
على أنه حال من المفعول أو حال كونه غائباً عن عيون الناس في خلوته ولم يغتر برحمته فإنه منتقم قهار كما أنه رحيم غفار وكيف يؤمن سخطه وعذابه بعد أن قال :﴿إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ﴾ (المعارج : ٢٨) ومن كان نعمته بسبب رحمته أكثر فالخوف منه أتم مخافة أن يقطع عنه النعم المتواترة فظهر وجه ذكر الرحمن مع الخشية مع أن الظاهر أن يذكر معها ما ينبىء عن القهر.
جزء : ٧ رقم الصفحة : ٣٦٤
وفي "التأويلات النجمية" ﴿وَخَشِىَ الرَّحْمَـانَ بِالْغَيْبِ﴾ أي : بنور غيبتي يشاهد وخامة عاقبة الكفر والعصيان ويتحقق عنده بشواهد الحق كمالية حلاوة الإيمان ورفعة رتبة العرفان ﴿فَبَشِّرْهُ﴾ أي : من اتبع وخشي وحد الضمير مراعاة اللفظ من ﴿بِمَغْفِرَةٍ﴾ عظيمة لذنوبه ﴿وَأَجْرٍ كَرِيمٍ﴾ حسن مرضى لأعماله الصالحة لا يقادر قدره وهو الجنة وما فيها مما أعده الله لعباده الجامعين بين اتباع ذكره وخشيته والفاء لترتيب البشارة أو الأمر بها على ما قبلها من اتباع الذكر والخشية.
يقول الفقير : رتب التبشير بمثنى على مثنى فالتأمل في القرآن والتأثر من الوعظ يؤدي إلى الإيمان المؤدي إلى المغفرة لأن الله تعالى يغفر ما دون الشرك لمن يشاء والخشية تؤدي إلى الحسنات المؤدية إلى الأجر الكريم لأنه تعالى قال :﴿جَزَآءَا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ (الواقعة : ٢٤).
قال بعضهم : الإنذار لا يؤثر إلا في أصحاب الذكر لأنهم في مشاهدة عظمة المذكور فبركة موعظة الصادق تزيد لهم تعظيم الله تعالى وإجلاله وإذا زاد هذا المعنى زادت العبودية وزال التعب وحصل الإنس مع الرب.
واعلم أن الجنة دار جمال وأنس وتنزل إلهي لطيف.
وأما النار فهي دار جلال وجبروت فالاسم الرب مع أهل الجنة والاسم الجبار مع أهل النار أبد الآبدين ودهر الداهرين وقد قال تعالى :"هؤلاء للجنة ولا أبالي وهؤلاء للنار ولا أبالي" وإنما كان الحق تعالى لا يبالي بذلك لأن رحمته سبقت غضبه في حق الموحدين أو في حق المشركين ويكون المراد بالرحمة رحمة الإيجاد من العدم لأنها سابقة على سبب الغضب الواقع منهم فلذلك كان تعالى لا يبالي بما فعل بالفريقين.
ولو كان المراد من عدم المبالاة ما توهمه بعضهم لما وقع الأخذ بالجرائم ولا وصف الحق نفسه بالغضب ولا كان البطش الشديد هذا كله من المبالاة والتهم بالمأخوذ كذا في "الفتوحات المكية".


الصفحة التالية
Icon