﴿لا الشَّمْسُ يَنابَغِى لَهَآ أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ﴾ أي : في علو المرتبة والشرف فكان ذلك تقوية لكتم آياتهم التي أعطاها للمحمديين العربيين وأجراها وأخفاها فيهم يعني : أن آيات المحمديين ليست بظاهرة في ظواهرهم غالباً كآية القمر وستظهر كراماتهم في الآخرة التي هي آثار ما في بواطنهم من العلوم والكشوف والحقائق والخوارق ﴿وَلا الَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ﴾ أي : ولا الليل يسبق النهار فيعجزه من أن ينتهي إليه ويجيىء الليل بعده ولكن الليل يعاقب النهار ويناوبه.
وقيل : المراد بهما آيتاهما وهما النيران وبالسبق سبق القمر إلى سلطان الشمس في محو نورها فيكون عكساً للأول فالمعنى لا يصح للقمر أيضاً أن يطلع في وقت ظهور سلطان الشمس وضوئها بحيث يغلب نورها ويصير الزمان كله ليلاً فهما يسيران الدهر ولا يدخل أحدهما على الآخر ولا يجتمعان إلا عند إبطال الله هذا التدبير ونقض هذا التأليف وتطلع الشمس من مغربها ويجتمع معها القمر كما قال تعالى :﴿وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ﴾ (القيامة : ٩) وذلك من أشراط الساعة.
فإن قلت إذا كان هذا عكس ما ذكر قبله كان المناسب أن يقال ولا الليل مدرك النهار.
قلت : إيراد السبق مكان الإدراك لأنه الملائم لسرعة سيره.
وفيه إشارة إلى أنه كما لا يصير القمر شمساً والشمس قمراً فكذلك قمر القلب بتوجهه إلى شمس شهود الحق يتنور بنورها كما قال تعالى :﴿وَأَشْرَقَتِ الارْضُ بِنُورِ رَبِّهَا﴾ (الزمر : ٦٩) ولكنه لا يصير الرب تعالى عبداً ولا العبد رباً فإن للرب الربوبية وللعبد العبودية تعالى ا لله تعالى عما يقول أصحاب الحلول وأرباب الفضول ﴿وَكُلَّ﴾ أي : وكلهم على أن التنوين عوض عن المضاف إليه الذي هو الضمير العائد إلى الشمس والقمر والجمع باعتبار التكاثر العارض لهما بتكاثر مطلعهما فإن اختلاف الأحوال يوجب تعدداً ما في الذات أو إلى الكواكب فإن ذكرهما مشعر ﴿فِى فَلَكٍ﴾ مخصوص معين من الأفلاك السبعة.
وفي "بحر العلوم" في جنس الفلك كقولهم كساهم الأمير حلة يريدون كساهم هذا الجنس والفلك مجرى الكواكب ومسيرها وتسميته بذلك لكونه كالفلك كما في "المفردات" والجار متعلق ﴿يَسْبَحُونَ﴾ السبح المر السريع في الماء أو في الهواء واستعير لمر النجوم في الفلك كما في "المفردات".
وقال في "كشف الأسرار" : والسبح الانبساط في السير كالسباحة في الماء وكل من انبسط في شيء فقد سبح فيه والمعنى يسيرون بانبساط
٤٠٢
جزء : ٧ رقم الصفحة : ٣٦٤
وسهولة لا مزاحم لهم سير السابح في سطح الماء.
وأخرج السيوطي في كتاب "الهيئة السنية" خلق الله بحراً دون السماء جارياً في سرعة السهم قائماً في الهواء بأمر الله تعالى لا يقطر منه قطرة يجري فيه الشمس والقمر والنجوم فذلك قوله تعالى :﴿وَكُلٌّ فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾ والقمر يدور دوران العجلة في لجة غمر ذلك البحر فإذا أحب الله أن يحدث الكسوف حرف الشمس عن العجلة فتقع في غمر ذلك البحر ويبقى سائراً على العجلة النصف أو الثلث أو ما شاء الرب تعالى للحكمة الربانية واقتضاء الاستعداد الكوني.
قال المنجمون قوله تعالى :﴿يَسْبَحُونَ﴾ يدل على أن الشمس والقمر والكواكب السيارة أحياء عقلاء لأن الجمع بالواو والنون لا يطلق على غير العقلاء.
وقال الإمام الرازي : إن أرادوا القدر الذي يصح به التسبيح فنقول به لأن كل شيء يسبح بحمده وإن أرادوا شيئاً آخر فذلك لم يثبت والاستعمال لا يدل عليه كما في قوله تعالى في حق الأصنام ﴿مَا لَكُمْ لا تَنطِقُونَ﴾ (الصافات : ٩٢) وقوله :﴿أَلا تَأْكُلُونَ﴾ (الذاريات : ٢٧).
وقال الإمام النسفي جمع يسبحون بالواو والنون لأنه تعالى وصفها بصفات العقلاء كالسباحة والسبق والإدراك وإن لم يكن لها اختيار في أفعالها بل مسخرة عليها يفعل بها ذلك تجبراً.
يقول الفقير : هنا وجه آخر هو أن صيغة العقلاء باعتبار مبادي حركات الأفلاك والنجوم فإن مبادي حركاتها جواهر مجردة عن مواد الأفلاك في ذواتها ومتعلقة بها في حركاتها ويقال لتلك الجواهر النفوس الفلكية على أنه ليس عند أهل الله شيء خال عن الحياة فإن سرّ الحياة سار في جميع الأشياء أرضية كانت أو سماوية لا سيما الشمس والقمر اللذان هما عينا هذا التعين الكوني :
جمله ذرات زمين وآسمان
مظهر سرّ حياتست أي : جوان
كى تواند يافتن آنرا خرد
هست او سرى خرد كى ى برد
نسأل الله تعالى حقيقة الإدراك والحفظ عن الزلق والهلاك.
﴿لا الشَّمْسُ يَنابَغِى لَهَآ أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا الَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِا وَكُلٌّ فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ * وَءَايَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * وَخَلَقْنَا لَهُم مِّن مِّثْلِه مَا يَرْكَبُونَ * وَإِن نَّشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنقَذُونَ * إِلا رَحْمَةً مِّنَّا وَمَتَـاعًا إِلَى حِينٍ﴾.
جزء : ٧ رقم الصفحة : ٣٦٤


الصفحة التالية
Icon