﴿وَءَايَةٌ لَّهُمُ﴾ أي : علامة عظيمة لأهل مكة على كمال قدرتنا وهو خبر مقدم لقوله :﴿أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ﴾ (الحمل : برداشتن).
قال في "القاموس" ذرأ كجعل خلق والشيء كثر ومنه الذرية مثلثة لنسل الثقلين انتهى.
قال الراغب : الذرية أصلها الصغار من الأولاد وإن كان يقع على الصغار والكبار في المتعارف ويستعمل في الواحد والجمع وأصله الجمع انتهى ويطلق على النساء أيضاً لا سيما مع الاختلاط مجازاً على طريقة تسمية المحل باسم الحال لأنهم مزارع الذرية كما في حديث عمر رضي الله عنه حجوا بالذرية يعني النساء وفي الحديث نهى عن قتل الذراري يعني النساء والمعنى إنا حملنا أولادهم الكبار الذين يبعثونهم إلى تجاراتهم ﴿فِى الْفُلْكِ﴾ (در كشتى) وهو ههنا مفرد بدليل وصفه بقوله :﴿الْمَشْحُونِ﴾ أي : المملوء منهم ومن غيرهم والشحناء عداوة امتلأت منها النفوس كما في "المفردات" أو حملنا صبيانهم ونساءهم الذين يستصحبونهم يعني :(برداشتيم فرزندان خرد وزنان ايشانرا كه آنانرا قوت سفر نيست بر خشكى) وتخصيص الذرية بمعنى الضعفاء الذين يستصحبونهم في سفر البحر مع أن تسخير البحر والفلك نعمة في حق أنفسهم أيضاً لما أن استقرارهم في السفن أشق واستمساكهم فيها أعجب.
٤٠٣
﴿وَخَلَقْنَا لَهُم مِّن مِّثْلِهِ﴾ مما يماثل الفلك ﴿مَا يَرْكَبُونَ﴾ من الإبل فإنها سفائن البر فتعريف الفلك للجنس لأن المقصود من الآية الاحتجاج على أهل مكة ببيان صحة البعث وإمكانه.
استدل عليه أولاً بإحياء الأرض الميتة وجعلها سبباً لتعيشهم.
ثم استدل عليه بتسخير الرياح والبحار والسفن الجارية فيها على وجهه يتوسلون بها إلى تجارات البحر ويستصحبون من يهمهم حمله من النساء والصبيان كما قال تعالى :﴿وَحَمَلْنَـاهُمْ فِى الْبَرِّ وَالْبَحْرِ﴾ (الإسراء : ٧٠).
وقيل تعريفه للعهد الخارجي والمراد فلك نوح عليه السلام المذكور في قوله :﴿وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا﴾ (هود : ٣٧) فيكون المعنى إنا حملنا ذريتهم أي : أولادهم إلى يوم القيامة في ذلك الفلك المشحون منهم ومن سائر الحيوانات التي لا تعيش في الماء ولولا ذلك لما بقي للآدمي نسل ولا عقب وخلقنا لهم من مثله أي : مما يماثل ذلك الفلك في صورته وشكله من السفن والزوارق وبالفارسية :(ون زورق وصندل وناو).
فإن قلت فعلى هذا لم لم يقل حملناهم وذريتهم مع أن أنفسهم محمولون أيضاً.
قلت : إشارة إلى أن نعمة التخليص عامة لهم ولأولادهم إلى يوم القيامة ولو قيل : حملناهم لكان امتناناً بمجرد تخليص أنفسهم من الغرق وجعل السفن مخلوقةتعالى مع كونها من مصنوعات العباد ليس لمجرد كونها صنعتهم بأقدار الله تعالى وإلهامه بل لمزيد اختصاص أهلها بقدرته تعالى وحكمته حسبما يعرب عنه قوله تعالى :
جزء : ٧ رقم الصفحة : ٣٦٤
﴿وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا﴾ (هود : ٣٧) والتعبير عن ملابستهم بهذه السفن بالركوب لأنها باختيارهم كما أن التعبير عن ملابسة ذريتهم بفلك نوح بالحمل لكونها بغير شعور منهم واختيار وأما قوله تعالى في سورة المؤمنين ﴿وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ﴾ (المؤمنون : ٢٢) فبطريق التغليب وجعل بعضهم المعنى الثاني أظهر لأنه إذا أريد بمثل الفلك الإبل لكان قوله :﴿وَخَلَقْنَا لَهُم﴾ إلخ فاصلاً بين متصلين لأن قوله :﴿وَإِن نَّشَأْ نُغْرِقْهُمْ﴾ متصل بالفلك واعتذر عنه في "الإرشاد" بأن حديث خلق الإبل في خلال الآية بطريق الاستطراد لكمال التماثل بين الإبل والفلك فكأنها نوع منه.
وقيل : المراد بالذرية الآباء والأجداد فإن الذرية تطلق على الأصول والفروع لأنها من الذرء بمعنى الخلق فيصلح الاسم للأصل والنسل لأن بعضهم خلق من بعض فالآباء ذريتهم لأن منهم ذرأ الأبناء.
وفيه أن الذرية في اللغة لم تقع إلا على الأولاد وعلى النساء كما ذكر اللهم إلا أن يراد ذرية أبيهم آدم عليه السلام وهم الأصول والفروع إلى قيام الساعة والعلم عند الله تعالى (كفتند سه يزرا الله تعالى راند بكمال قدرت خويش شتران در صحرا وميغ در هوا وكشتى در دريا) وفهم من الامتنان بالحمل جواز ركوب البحر إلا من دخول الشمس العقرب إلى آخر الشتاء فإنه لا يجوز ركوبه حينئذٍ لأنه من الإلقاء إلى التهلكة كما في شرح "حزب البحر" للشيخ الزروقي قدس سره.
﴿وَإِن نَّشَأْ نُغْرِقْهُمْ﴾ الخ من تمام الآية فإنهم معترفون بمضمونه كما ينطق به قوله تعالى :﴿وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ (لقمان : ٣٢) وفي تعليق الإغراق وهو بالفارسية (غرقه كردن) بمحض المشيئة إشعار بأنه قد تكامل ما يوجب هلاكهم من معاصيهم ولم يبق إلا تعلق مشيئته تعالى به.
قال في "بحر العلوم" : وهو محمول على الفرض والتقدير بدليل قوله ﴿وَلا هُمْ يُنقَذُونَ * إِلا رَحْمَةً مِّنَّا﴾ (يس : ٤٣ ـ ٤٤) الخ والمعنى أن نشأ إغراقهم نغرقهم في اليم مع ما حملناهم فيه من الفلك