خصوا بزيادة التوبيخ والتقريع لتضاعف جناياتهم والجبل بكسر الجيم وتشديد اللام الخلق أي : المخلوق ولما تصور من الجبل العظم قيل للجماعة العظيمة جبل تشبيهاً بالجبل في العظم وإسناد الإضلال إلى الشيطان مجاز والمراد سببيته كما في قوله تعالى :﴿رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ﴾ (إبراهيم : ٣٦) وإلا فالهداية والإضلال و"الإرشاد" والإغواء صفة الله تعالى في الحقيقة بدليل قوله عليه السلام :"بعثت داعياً ومبلغاً وليس إليّ من الهدى شيء وخلق إبليس مزيناً وليس إليه من الضلالة شيء" والمعنى وبالله لقد أضل الشيطان منكم خلقاً كثيراً يعني صار سبباً لضلالهم عن ذلك الصراط المستقيم الذي أمرتكم بالثبات عليه فأصابهم لأجل ذلك ما أصابهم من العقوبات الهائلة التي ملأ الآفاق أخبارها وبقي مدى الدهر آثارها.
وقال بعضهم : وكيف تعبدون الشيطان وتنقادون لأمره مع أنه قد أضل منكم يا بني آدم جماعة متعددة من بني نوعكم فانحرفوا بإضلاله عن سواء السبيل فحرموا من الجنة الموعودة لهم ﴿أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ﴾ الفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام أي : أكنتم تشاهدون آثار عقوباتهم فلم تكونوا تعقلون إنها لضلالهم وطاعتهم إبليس أو فلم تكونوا تعقلون شيئاً أصلاً حتى ترتدعوا عما كانوا عليه كيلا يحيق بكم العقاب.
وقال الكاشفي :(ايا نيستيد شماكه تعقل كنيد وخودرا دردام فريب او بيفكنيد).
وفي "كشف الأسرار" هو استفهام تقريع على تركهم الانتفاع بالعقل وفي الحديث "قسم الله العقل ثلاثة أجزاء فمن كانت فيه فهو العاقل حسن المعرفة بالله" أي : الثقة بالله في كل أمر والتفويض إليه والائتمار له على نفسك وأحوالك والوقوف عند مشيئته لك في كل أمر دنيا وآخرة "وحسن الطاعة " وهو أن تطيعه في كل أموره "وحسن الصبر"وهو أن تصبر في النوائب صبراً لا يرى عليك في الظاهر أثر النائبة كذا في "درر الأصول".
جزء : ٧ رقم الصفحة : ٣٦٤
وفي "التأويلات النجمية" :﴿وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنكُمْ جِبِلا كَثِيرًا﴾ عن صراط مستقيم عبوديتي وأبعدكم عن جواري وقربتي ﴿أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ﴾ لتعلموا أن الرجوع إلى الحق أولى من التمادي في الباطل فلا تظلموا على أنفسكم وارجعوا إلى ربكم واعلم أن العقل نور يستضاء به كما قال في "المثنوي" :
كربصورت وانمايد عقل رو
تيره باشد روز يش نوراوورمثال احمقى يدا شود
ظلمت شب يش اوروشن بود
اندك اندك خوى كن بانور روز
ورنه خفاشىء بمانى بى فروز
عقل كل راكفت ما زاغ البصر
عقل جزئي ميكند هرسونظر ثم اعلم أن الجاهل الأحمق والضال المطلق في يد الشيطان يقوده حيث يشاء ولو علم حقيقة الحال وعقل أن الله الملك المتعال واهتدى إلى طريق التوحيد والطاعة لحفظه الله من تلك الساعة فإن التوحيد حصنه الحصين ومن دخل فيه أمن من مكر العدو المهين ومن خرج عنه طالباً للنجاة أدركه الهلاك ومات في يد الآفات ومن أهمل نفسه فلم يتحرك لشيء كان كمجنون لا يعرف شمساً من فيىء فنسأل الله الاشتغال بطاعته واستيعاب الأوقات بعبادته وطرد الشيطان بأنوار الخدمة وقهر النفس بأنواع الهمة.
﴿وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنكُمْ جِبِلا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ * هَـاذِه جَهَنَّمُ الَّتِى كُنتُمْ تُوعَدُونَ * اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ﴾.
﴿هَـاذِه جَهَنَّمُ الَّتِى كُنتُمْ﴾ أيها المرجون ﴿تُوعَدُونَ﴾ أي : توعدونها على ألسنة الرسل في الدنيا في أزمنتها المتطاولة
٤٢٣
بمقابلة عبادة الشيطان مثل قوله تعالى ﴿لامْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ (ص : ٨٥) وغير ذلك وهو استئناف يخاطبون به من خزنة جهنم بعد تمام التوبيخ والتقريع والإلزام والتبكيت عند إشرافهم على شفير جهنم ﴿اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ﴾ يقال : صلي اللحم كرمي يصليه صلياً شواه وألقاه في النار وصلى النار قاسى حرها وأصله أصليوها فاعل كاحشيوا وهو أمر تنكيل وإهانة كقوله تعالى :﴿ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ﴾ (الدخان : ٤٩) والمعنى ادخلوها وقاسوا حرها وفنون عذابها اليوم بكفركم المستمر في الدنيا وفي ذكر اليوم ما يوجب شدة ندامتهم وحسرتهم يعني أن أيام لذاتكم قد مضت ومن هذا الوقت واليوم وقت عذابكم
جزء : ٧ رقم الصفحة : ٣٦٤
قال أبو هريرة رضي الله عنه : أوقدت النار ألف عام فابيضت ثم أوقدت ألف عام فاحمرت ثم أوقدت ألف عام فاسودت فهي سوداء كالليل المظلم وهي سجن الله تعالى المجرمين قال النبي عليه السلام لجبرائيل :"مالي لم أر ميكائيل ضاحكاً قط" قال ما ضحك ميكائيل منذ خلقت النار.
قال بعضهم : ذكر النار شديد فكيف القطيعة والفضيحة فيها ولذا ورد فضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة.