بطريق الكناية على أبلغ وجه وآكده فإن النهي عن أسباب الشيء ومباديه المؤدية إليه نهي عنه بالطريق البرهاني وإبطال للسببية.
وقد يوجه النهي إلى المسبب ويراد النهي عن السبب كما في قوله لا أرينك ههنا يريد به نهي مخاطبه عن الحضور لديه والمراد بقولهم ما ينبىء عنه ما ذكر من اتخاذهم الأصنام آلهة فإن ذلك مما لا يخلو عن التفوه بقولهم هؤلاء آلهتنا وأنهم شركاء الله تعالى في المعبودية وغير ذلك مما يورث الحزن كذا في "الإرشاد".
قال ابن الشيخ : الفاء جزائية أي : إذا سمعت قولهم في الله أن له شريكاً وولداً وفيك أنك كاذب شاعر وتألمت من أذائهم وجفائهم فتسل بإحاطة علمي بجميع أحوالهم وبأني أجازيهم على تكذيبهم إياك وإشراكهم بي ﴿إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ﴾.
قال في "الإرشاد" : تعليل صريح للنهي بطريق الاستئناف بعد تعليله بطريق الإشعار فإن العلم بما ذكر مستلزم للمجازاة قطعاً أي : نعلم بعلمنا الحضوري عموم ما يضمرون في صدورهم من العقائد الفاسدة ومن العداوة والبغض وجميع ما يظهرون بألسنتهم من كلمات الكفر والشرك بالله والإنكار للرسالة فنجازيهم على جميع جناياتهم الخافية والبادية.
بآشكار ونهان هره كفتى وكردى
جزا دهد بتو داناى آشكار ونهان
وتقديم السر على العلن إما للمبالغة في بيان شمول علمه تعالى لجميع المعلومات كأنه علمه تعالى بما يسرون أقدم منه بما يعلنون مع استوائهما في الحقيقة فإن علمه تعالى بمعلوماته ليس بطريق حصول صورها بل وجود كل شيء في نفسه علم بالنسبة إليه تعالى وفي هذا المعنى لا يختلف الحال بين الأشياء البارزة والكامنة وإما لأن مرتبة السر متقدمة على مرتبة العلن إذ ما من شيء يعلن إلا وهو أو مباديه مضمر في القلب قبل ذلك فتعلق علمه بحالته الأولى متقدم على تعلقه بحالته الثانية حقيقة.
وفي الآية إشارة إلى أن كلام الأعداء الصادر من العداوة والحسد جدير أن يحزن قلوب الأنبياء مع كمال قوتهم وأنهم ومتابعيهم مأمورون بعدم الالتفات وتطييب القلوب في مقاساة الشدائد في الله بأن لها ثمرات كريمة عند الله وللحساد مطالب بها عند الله كما قال :﴿إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ﴾ من الحسد والضغائن ﴿وَمَا يُعْلِنُونَ﴾ من العداوة والطعن وأنواع الجفاء وإذا علم العبد أن ألمه آت من الحق هان عليه ما يقاسيه لا سيما إذا كان في الله كما في "التأويلات النجمية".
قال بعض الكبار : ليخفف ألم البلاء علمك بأن الله هو المبتلي.
جزء : ٧ رقم الصفحة : ٣٦٤
هره ازجانان مى آيد صفا باشد مرا†
هذا، قال في "برهان القرآن" قوله :﴿فَلا يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ﴾ وفي يونس ﴿وَلا يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا﴾ (يونس : ٦٥) تشابهاً في الوقف على قولهم في السورتين لأن الوقف عليه لازم وإن فيهما مكسورة في الابتداء لا في الحكاية ومحكي القول فيهما محذوف ولا يجوز الوصل لأن النبي صلى الله عليه وسلّم منزه عن أن يخاطب بذلك انتهى.
قال في "بحر العلوم" قوله :﴿إِنَّآ﴾ الخ تعليل للنهي على الاستئناف ولذلك لو قرىء أنا بفتح الهمزة على حذف لام التعليل جاز وعليه تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلّم "لبيك إن الحمد والنعمة لك" كسر أبو حنيفة وفتح الشافعي وكلاهما تعليل انتهى.
وفي "الكواشي" وزعم بعضهم أن من فتح ﴿إِنَّآ﴾ بطلت صلاته وكفر وليس كذلك لأنه لا يخلو إما أن يفتحها تعليلاً فمعناه كالمكسورة أو يفتحها بدلاً من قولهم وليس بكفر
٤٣٥
أيضاً لجواز أن يخاطب هو صلى الله عليه وسلّم والمراد غيرة نحو ﴿لَـاـاِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ﴾ (الزمر : ٦٥) بل إن اعتقد أن محمداً عليه السلام يحزن لعلمه تعالى سرهم وعلانيتهم فقد كفر أو يفتحها معمولة قولهم عند من يعمل القول بكل حال وليس بكفر أيضاً انتهى كلامه بإجمال.
﴿فَلا يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ * أَوَلَمْ يَرَ الانسَـانُ أَنَّا خَلَقْنَـاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مٌّبِينٌ * وَضَرَبَ لَنَا مَثَلا وَنَسِىَ خَلْقَه قَالَ مَن يُحْىِ﴾.
﴿أَوَلَمْ يَرَ الانسَـانُ أَنَّا خَلَقْنَـاهُ مِن نُّطْفَةٍ﴾ كلام مستأنف مسوق لبيان بطلان إنكارهم البعث بعد ما شاهدوا في أنفسهم أوضح دلائله وأعدل شواهده كما أن ما سبق مسوق لبيان بطلان إشراكهم بالله بعدما عاينوا فيما بأيديهم ما يوجب التوحيد والإسلام.
والهمزة للإنكار والتعجيب والواو للعطف على مقدر والرؤية قلبية والنطفة الماء الصافي ويعبر بها عن ماء الرجل.
جزء : ٧ رقم الصفحة : ٣٦٤