﴿وَضَرَبَ لَنَا مَثَلا﴾ عطف على الجملة الفجائية أي : ففاجأ خصومتنا وضرب لنا مثلاً أي : أورد في شأننا قصة عجيبة في نفس الأمر وهي في الغرابة والبعد عن العقول كالمثل وهي إنكار إحيائنا العظام ونفي قدرتنا عليه.
قال ابن الشيخ المثل يستعار للأمر العجيب تشبيهاً له في الغرابة بالمثل العرفي الذي هو القول السائر ولا شك أن نفي قدرة الله على البعث مع أنه من جملة الممكنات وأنه تعالى على كل شيء قدير من أعجب العجائب ﴿وَنَسِىَ خَلْقَهُ﴾ عطف على ضرب داخل في حيز الإنكار والتعجيب والمصدر مضاف إلى المفعول أي : خلقنا إياه من النطفة أي : ترك التفكر في بدء خلقه ليدله ذلك على قدرته على البعث فإنه لا فرق بينهما من حيث أن كلاً منهما إحياء موات وجماد.
وقال البقلى في "خلق الإنسان والوجوه الحسان" : من علامات قدرته أكثر مما يكون في الكون لأن الكونين والعالمين في الإنسان مجموعون وفيه علمه معلوم لو عرف نفسه فقد عرف ربه لأن الخليقة مرآة الحقيقة تجلت الحقيقة في الخليقة لأهل المعرفة ورب قلب ميت أحياه بجمالته بعد موته بجهالته ﴿قَالَ﴾ استئناف وقع جواباً عن سؤال نشأ عن حكاية ضرب المثل كأنه قيل أي : مثل ضرب أو ماذا قال فقيل : قال ﴿مَن يُحْىِ الْعِظَـامَ﴾ منكراً له أشد النكير مؤكداً له بقوله :﴿وَهِىَ رَمِيمٌ﴾ أي : بالية أشد البلى بعيدة من الحياة غاية البعد حيث لا جلد عليها ولا لحم ولا عروق ولا أعصاب يقال رمّ العظم يرم رمة بكسر الراء فيهما أي : بلى فهو رميم وعدم تأنيث الرميم مع وقوعه خبراً للمؤنثة لأنه اسم لما بلى من العظام غير صفة كالرفات.
وقد تمسك بظاهر الآية الكريمة من أثبت للعظم حياة وبنى عليه الحكم بنجاسة عظم الميت وهو الشافعي ومالك وأحمد وأما أصحابنا الحنفية فلا يقولون بنجاسته كالشعر ويقولون المراد بإحياء العظام ردها إلى ما كانت عليه من الغضاضة والرطوبة في بدن حي حساس.
واختلفوا في الآدمي هل يتنجس بالموت.
فقال أبو حنيفة : يتنجس لأنه دموي إلا أنه يطهر بالغسل كرامة له وتكره الصلاة عليه في المسجد.
وقال الشافعي وأحمد لا يتنجس به ولا تكره الصلاة عليه فيه وعن مالك خلاف والأظهر الطهارة وأما الصلاة عليه في المسجد فالمشهور من مذهبه كراهتها كقول أبي حنيفة.
﴿وَضَرَبَ لَنَا مَثَلا وَنَسِىَ خَلْقَه قَالَ مَن يُحْىِ الْعِظَـامَ وَهِىَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِى أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍا وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ * الَّذِى جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الاخْضَرِ نَارًا فَإِذَآ أَنتُم مِّنْه﴾.
جزء : ٧ رقم الصفحة : ٣٦٤
﴿قُلْ﴾ يا محمد تبكيتاً لذلك الإنسان المنكر بتذكير ما نسيه من فطرة الدالة على حقيقة الحال وإرشاده الطريقة للاستشهاد بها ﴿يُحْيِيهَا﴾ أي : تلك العظام ﴿الَّذِى أَنشَأَهَآ﴾ أوجدها ﴿أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ أي : في أول مرة ولم تكن شيئاً فإن قدرته كما هي لاستحالة التغير فيها والمادة على حالها في القابلية اللازمة لذاتها وهو من النصوص القاطعة الناطقة بحشر الأجساد استدلالاً بالابتداء على الإعادة وفيه رد على من لم يقل به وتكذيب له ﴿وَهُوَ﴾ أي : الله المنشيء
٤٣٧
﴿بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ﴾ مبالغ في العلم بتفاصيل كيفيات الخلق والإيجاد إنشاء وإعادة محيط بجميع الأجزاء المتفتتة المتبددة لكل شخص من الأشخاص أصولها وفروعها وأوضاع بعضها من بعض من الاتصال والانفصال والاجتماع والافتراق فيعيد كلاً من ذلك على النمط السابق مع القوى التي كانت قبل.
وفي "بحر العلوم" بليغ العلم بكل شيء من المخلوقات لا يخفى عليه شيء من الأجزاء المتفتتة وأصولها وفروعها فإذا أراد أن يحيي الموتى يجمع أجزاءهم الأصلية ويعيد الأرواح إليها ويحيون كما كانوا أحياء وهو معنى حشر الأجساد والأرواح وبعث الموتى.
قال القاضي عضد الدين في "المواقف" هل يعدم الله الأجزاء البدنية ثم يعيدها أو يفرقها ويعيد فيها التأليف والحق إنه لم يثبت ذلك ولا نجزم فيه نفياً ولا إثباتاً لعدم الدليل على شيء من الطرفين وقوله تعالى :﴿كُلُّ شَىْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ﴾ لا يرجح أحد الاحتمالين لأن هلاك الشيء كما يكون بإعدام أجزائه يكون أيضاً بتفريقها وإبطال منافعها انتهى.
فالجسم المعاد هو المبتدأ بعينه أي : بجميع عوارضه المشخصة سواء قلنا أن المبتدأ قد فنى بجميع أعضائه وصار نفياً محضاً وعدماً صرفاً ثم إنه تعالى أعاده بإعادة أجزائه الأصلية وصفاته الحالة فيها أو قلنا أن المبتدأ قد فنى بتفرق أجزائه الأصلية وبطلان منافعها ثم إنه تعالى ألف بين الأجزاء المتفرقة وضم بعضها إلى بعض على النمط السابق وخلق فيها الحياة.