واعلم أن المنكرين للحشر منهم من لم يذكر فيه دليلاً ولا شبهة بل اكتفى بمجرد الاستبعاد وهم الأكثرون كقولهم :﴿أَءِذَا ضَلَلْنَا فِى الارْضِ أَءِنَّا لَفِى خَلْقٍ جَدِيد﴾ (السجدة : ١٠) وقولهم :﴿أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَـامًا أَءِنَّا لَمَبْعُوثُونَ﴾ (المؤمنون : ٨٢) ومن قال :﴿مَن يُحْىِ الْعِظَـامَ وَهِىَ رَمِيمٌ﴾ قاله على طريق الاستبعاد فأبطل الله استبعادهم بقوله :﴿وَنَسِىَ خَلْقَهُ﴾ أي : نسي أنا خلقناه من تراب ثم من نطفة متشابهة الأجزاء ثم جعلنا له من ناصيته إلى قدمه أعضاء مختلفة الصور وما اكتفينا بذلك حتى أودعناه ما ليس من قبيل هذه الأجرام وهو النطق والعقل واللذان بهما استحق الإكرام فإن كانوا يقنعون بمجرد الاستبعاد فهلا يستبعدون خلق الناطق العاقل من نطفة قذرة لم تكن محلاً للحياة أصلاً ويستبعدون إعادة النطق والعقل إلى محل كانا فيه.
ومنهم من ذكر شبهة وإن كانت في آخرها تعود إلى مجرد الاستبعاد وهي على وجهين :
جزء : ٧ رقم الصفحة : ٣٦٤
الأول : أنه بعد العدم لم يبق شيئاً فكيف يصح على العدم الحكم بالوجود فأجاب تعالى عن هذه الشبهة بقوله :﴿قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِى أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ يعني أنه كما خلق الإنسان ولم يك شيئاً مذكوراً كذلك يعيده وإن لم يبق شيئاً مذكوراً.
والثاني : أن من تفرقت أجزاؤه في مشارق العالم ومغاربه وصار بعضه في أبدان السباع وبعضه في حواصل الطيور وبعضه في جدران المنازل كيف يجتمع وأبعد من هذه أنه لو أكل إنسان إنسان وصارت أجزاء المأكول داخلة في أجزاء الآكل فإن أعيدت أجزاء الآكل لا يبقى للمأكول أجزاء تتخلق منها أعضاؤه وإن أعيدت الأجزاء المأكولة إلى بدن المأكول وأعيد المأكول بأجزائه لا تبقى للآكل أجزاء يتخلق منها فأبطل الله هذه الشبهة بقوله :﴿وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ﴾.
ووجهه أن في الآكل أجزاء أصلية وأجزاء فضلية وفي المأكول أيضاً كذلك فإذا أكل إنسان إنساناً صارت الأجزاء الأصلية للمأكول
٤٣٨
فضلة بالنسبة إلى الآكل والأجزاء الأصلية للآكل وهي ما كان قبل الأكل هي التي تجمع وتعاد مع الآكل والأجزاء المأكولة مع المأكول والله بكل خلق عليم يعلم الأصل من الفضل فيجمع الأجزاء الأصلية للآكل ويجمع الأجزاء الأصلية للمأكول وينفخ فيه الروح وكذلك يجمع الأجزاء المتفرقة في البقاع المتباعدة بحكمته وقدرته.
قال بعض الأفاضل : لما كان تمسكهم بكون العظام رميمة من وجهين :
أحدهما : اختلاط أجزاء الأبدان والأعضاء بعضها مع بعض فكيف يميز أجزاء بدن من أجزاء رميمة يابسة جداً مع أن الحياة تستدعي رطوبة البدن.
أشار إلى جواب الأول بقوله :﴿وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ﴾ فيمكنه تمييز أجزاء الأبدان والأعضاء.
وإلى جواب الثاني بقوله :﴿الَّذِى جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الاخْضَرِ نَارًا﴾ بدل من الموصول الأول وعدم الاكتفاء بعطف الصلة للتأكيد ولتفاوتهما في كيفية الدلالة.
والشجر من النبت : ماله ساق والخضرة أحد الألوان بين البياض والسواد وهو إلى السواد أقرب فلهذا سمي الأسود أخضر والأخضر أسود.
وقيل : سواد العراق للموضع الذي تكثر فيه الخضرة ووصف الشجر بالأخضر دون الخضراء نظراً إلى اللفظ فإن لفظ الشجر مذكر ومعناه مؤنث لأنه جمع شجرة كثمر وثمرة والجمع مؤنث لكونه بمعنى الجماعة.
والمعنى خلق لأجلكم ومنفعتكم من الشجر الأخضر كالمرخ والعفار ناراً والمرخ بالخاء المعجمة شجر سريع الورى والعفار بالعين المهملة كسحاب شجر آخر تقدح منه النار.
جزء : ٧ رقم الصفحة : ٣٦٤
قال الحكماء : لكل شجر نار إلا العناب فمن ذلك يدق القصار الثوب عليه ويتخذ منه المطرقة والعرب تتخذ زنودها من المرخ والعفار وهما موجودات في أغلب الواضع من بوادي العرب يقطع الرجل منهما غصنين كالسواكين وهما أخضران يقطر منهما الماء فيسحق المرخ وهو ذكر على العفار وهو أنثى فتنقدح النار بإذن الله تعالى وذلك قوله تعالى :﴿فَإِذَآ أَنتُم مِّنْه تُوقِدُونَ﴾ إذا للمفاجأة والجار متعلق بتوقدون والضمير راجع إلى الشجر (والإيقاد : آتش افروختن) أي : تشعلون النار من ذلك الشجر لا تشكون في أنها نار تخرج منه كذلك لا تشكون في أن الله يحيي الموتى ويخرجهم من القبور للسؤال والجزاء من الثواب والعقاب فإن من قدر على إحداث النار وإخراجها من الشجر الأخضر مع ما فيه من المائية المضادة لها بكيفية كان أقدر على إعادة الغضاضة إلى ما كان غضاً فطرأ عليه اليبوسة والبلى وعلم منه أن الله تعالى جامع الأضداد ألا يرى أنه جمع الماء والنار في الخشب فلا الماء يطفىء النار ولا النار تحرق الخشب.