وقال بعضهم : لأن الفواكه من اتباع سائر الأطعمة فذكرها مغن عن ذكرها.
يقول الفقير : والظاهر أن الاقتصار على الفواكه للترغيب والتشويق من حيث أنه لا يوجد في أغلب ديار العرب خصوصاً في الحجاز أنواع الفواكه ﴿وَهُم مُّكْرَمُونَ﴾ عنده لا يلحقهم هوان وذلك أعظم المثوبات وأليقها بأولى الهمم.
وقال بعضهم لما فصل خصائص رزقهم بين أن ذلك الرزق يصل إليهم بالتعظيم والإكرام لأن مجرد المطعوم من غير إعزاز وإكرام يليق بالبهائم.
ولما ذكر مأكولهم وصف مساكنهم فقال :﴿فِى جَنَّـاتِ النَّعِيمِ﴾ النعيم النعمة أي : في جنات ليس فيها إلا النعيم بالإضافة للاختصاص والظرف يقرر محل الرزق والإكرام أو خبر آخر
٤٥٨
لقول هم مثل قوله :﴿عَلَى سُرُرٍ﴾ (برتختهاى آراسته) جمع سرير وهو الذي يجلس عليه من السرور إذ كان كذلك لأولي النعمة وسرير الميت يشبه به في الصورة وللتفاؤل بالسرور الذي يلحق بالميت برجوعه إلى الله وخلاصه من السجن المشار إليه بقوله عليه السلام :"الدنيا سجن المؤمن" ويجوز أن يتعلق على سرر بقوله :﴿مُّتَقَـابِلِينَ﴾ أي : حال كونهم متقابلين على سرر وهو حال من الضمير في قوله على سرر والمعنى بالفارسية :(روى در روى يكديكر تابديدار هم شاد وخرم باشند) والتقابل وهو أن ينظر بعضهم وجه بعض أتم للسرور والإنس.
وقيل : لا ينظر بعضهم إلى قفا بعض لدوران الأسرة بهم ثم إن استئناس بعضهم برؤية بعض صفة الأبرار فإن من صفة الأحرار لا يستأنسوا إلا بمولاهم.
وسئل يحيى بن معاذ رضي الله عنه هل يقبل الحبيب بوجهه على الحبيب؟ فقال : وهل يصرف الحبيب وجهه عن الحبيب وذلك لكون أحدهما مرآة للآخر فالله تعالى يتجلى للمقربين كل لحظة فيدوم عليهم انسهم الباطن حال كون ظواهرهم مستغرقة في نعيم الجنان، قال الكمال الخجندي :
جزء : ٧ رقم الصفحة : ٤٤٤
دولت آن نيست كه يابم دو جهان زير نكين
دولت اينست وسعادت كه ترا يافته ام
ولما ذكر مأكل المخلصين ومسكنهم ذكر بعده صفة شربهم فقال :﴿يُطَافُ عَلَيْهِم﴾ استئناف مبني على ما نشأ عن حكاية تكامل مجالس أنسهم.
والطواف الدوران حول الشيء وكذا الإطافة كما قال في "التهذيب" :(الإطافة : كرد يزى بركشتن) والمعنى بالفارسية :(كردانيده ميشود برايشان يعني ساقيان بهشت وخادمان برسر ايشان مى كردانند) ﴿بِكَأْسٍ﴾ (جامى تر) اى باناء فيه خمر فإن الكأس يطلق على الزجاجة ما دام فيها خمر وإلا فهو قدح وإناء ﴿مِّن مَّعِين﴾ صفة كأس أي : كائنة من شراب معين أي : ظاهر للعين أو من نهر معين أي : جار على وجه أرض الجنة فإن في الجنة أنهاراً جارية من خمر كأنهار جارية من ماء.
قال في ا"المفردات" : هو من قولهم معن الماء جرى فهو معين وقيل ماء معين هو من العين والميم زائدة فيه انتهى.
وفي الآية إشارة إلى أن قوماً شربوا ومشربهم الشراب بالكأس والشراب معين محسوس وقوماً شربوا ومشربهم الحب والحب مغيب مستور وقوماً شربوا ومشربهم المحبوب هو سر مكنون.
نسيم الحب يحييكم
رحيق الحب يلهيكم
من المحبوب تأتيكم
إلى المحبوب ينهيكم
﴿بَيْضَآءَ﴾ لوناً أشد من لون اللبن والخمر البيضاء لم تر في الدنيا ولن ترى وهذا من جملة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت.
وبيضاء تأنيث أبيض صفة أيضاً لكأس وكذا قوله :﴿لَذَّةٍ لِّلشَّـارِبِينَ﴾ لكل من يشرب منها.
ووصفها بلذة ما للمبالغة أي : كأس لذيذة عذبة شهية طيبة صارت في لذتها كأنها نفس اللذة أو لأنها تأنيث اللذ بمعنى اللذيذ وصفها باللذة بياناً لمخالفتها لخمور الدنيا لانقطاع اللذة عن خمور الدنيا كلها رأساً بالكلية ﴿لا فِيهَا غَوْلٌ﴾ بخلاف خمور الدنيا فإن فيها غولاً كالصداع ووجع البطن وذهاب العقل والإثم فهو من قصر المسند إليه على المسند.
يعني إن عدم الغول مقصور على الاتصاف بفي إذ خمور الجنة لا تتجاوز الاتصاف بفي كخمور الدنيا وبالفارسية :(نيست دران شراب آفتى وعلتى كه بر
٤٥٩
خمر دنيا مرتب است ون فساد حال وذهاب عقل وصداع سر وخواب وجزآن) وهي صفة لكأس أيضاً وبطل عمل لا وتكررت لتقدم خبرها.
والغول اسم بمعنى الغائلة يطلق على كل أذية ومضرة.
قال في ا"المفردات" : قال تعالى في صفة خمر الجنة ﴿لا فِيهَا غَوْلٌ﴾ نفياً لكل ما نبه عليه بقوله :﴿وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا﴾ وبقوله :﴿رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَـانِ﴾ انتهى يقال غاله الشيء إذا أخذه من حيث لم يدر وأهلكه من حيث لا يحس به ومنه سمي السعلاة غولاً بالضم والسعلاة سحرة الجن كما سبق في سورة الحجر.
قال في "بحر العلوم" : ومنه الغول الذي يراه بعض الناس في البوادي ولا يكذبه ولا ينكره إلا المعتزلة من جميع أصناف الناس حتى جعلوه من كذبات العرب مع أنه يشهد بصحته قوله عليه السلام :"إذا تغولت الغيلان فنادوا بالأذان" انتهى.
جزء : ٧ رقم الصفحة : ٤٤٤