على حسب العوامل منصوب بميتين كما ينصب المصدر بالفعل المذكور قبله في مثل قولك ما ضربت زيداً إلا ضربة واحدة كأنه قيل وما نحن نموت موتة إلا موتتنا الأولى وقيل نصبها على الاستثنا المنقطع بمعنى لكن الموتة الأولى قد كانت في الدنيا.
وقيل إلا هنا بمعنى بعد وسوى ﴿وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ﴾ كالكفار فإن النجاة من العذاب أيضاً نعمة جليلة مستوجبة للتحدث بها كما أن العذاب محنة عظيمة مستدعية لتمني الموت كل ساعة.
وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه "الموت أشد مما قبله وأهون مما بعده".
وفي الآية إشارة إلى أن مات الموتة الأولى وهي الموتة الإرادية عن الصفات النفسانية الحيوانية فقد حيى بحياة روحانية ربانية لا يموت بعدها أبداً بل ينقل المؤمن من دار إلى دار في جوار الحق ولا يعذب بنار الهجران وآفة الحرمان :
هركه فانى شد ازارادت خويش
زندكى يافت او زمهجت خويش
جزء : ٧ رقم الصفحة : ٤٤٤
از عذاب والم مسلم كشت
در جوار خدا منعم كشت
﴿إِنْ هَـاذَآ﴾ أي : الأمر العظيم الذي نحن فيه من النعمة والخلود والأمن من العذاب ﴿لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ الفوز الظفر مع حصول السلامة أي : لهو السعادة والظفر بكل المراد الدنيا وما فيها تحتقر دونه كما تحتقر القطرة من البحر المحيط والحبة من البيدر الكبير ﴿لِمِثْلِ هَـاذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَـامِلُونَ﴾ أي : لنيل هذا المرام الجليل يجب أن يعمل العاملون ويجتهد المجتهدون لا للحظوظ الدنيوية السريعة الانقطاع المشوبة بفنون الآلام والبلايا والصداع.
قال الكاشفي :(ازبراى اين نعمتها س بايدكه عمل كنند كان نه براى مال وجاه دنياكه برشرف زوال وصدد انتقال است) :
كربار كشى بار نكارى بارى
وركار كنى براى يارى بارى
ورروى بخاكراهى خواهى ماليد
برخاك ره طرفه سوارى بارى
ويحتمل أن يكون قوله إن هذا الخ من كلام رب العزة فهو ترغيب في طلب ثواب الله بطاعته ويقال فليحتمل المحتملون الأذى لأنه قد حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات كما قال جلال الدين الرومي قدس سره :
حفت الجنة بمكروهاتنا
حفت النيران من شهواتنا
يعني : جعلت الجنة محفوفة بالأشياء التي كانت مكرهة لنا وجعلت النار محاطة بالأشياء التي محبوبة لنا فما بين المرء وبين الجنة حجاب إلا المكاره وهو حجاب عظيم صعب خرقه وما بين النار وبينه حجاب إلا الشهوات وهو حجاب حقير سهل لأهله والعياذ بالله من الإقبال على الشهوات والإدبار عن الكرامات في الجنات.
قال في "كشف الأسرار" :(س عارفان سزاتراندكه براميد ديدار جلال احديت ويافت حقائق قربت وتباشير صبح وصلت ديده ديده ودل فرا كنند وجان ورواه درين بشارت نثار كنند) يعني إن هبت نفحة من نفحات الحق من جنات القدس أو شم رائحة من نسيم القرب أو بدت شطبة من الحقائق وتباشير الوصلة حق للعارف أن يقول إن هذا لهو الفوز العظيم وبالحرى أن يقول :﴿لِمِثْلِ هَـاذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَـامِلُونَ﴾ بل لمثل هذه الحالة تبذل الأرواح وتفدى الأشباح كما قيل :
على مثل ليلى يقتل المرء نفسه
وإن بات من سلمى على اليأس طاوياً
٤٦٣
والحاصل : أن لكل من العابدين والعارفين حصة من إشارة هذا في الآية وكان بعض الصلحاء يصلي الضحى مائة ركعة ويقول لهذا خلقنا وبهذا أمرنا يوشك أولياء الله أن يكفوا ويحمدوا أي : على ما آتاهم الله في مقابلة مجاهداتهم وطاعتهم من الأجر الجزيل والثواب الجميل.
وقد ثبت أن كثيراً من الصلحاء تلوا عند النزع قوله تعالى :﴿لِمِثْلِ هَـاذَا﴾ إلى آخر ما أشير إليه لما شاهده من حيث مقامه فنسأل الله القلب السليم في الدنيا والنعيم المقيم في العقبى ولله تعالى ألطاف لا تحويها الأفكار.
جزء : ٧ رقم الصفحة : ٤٤٤


الصفحة التالية
Icon