ـ حكي ـ أن موسى عليه السلام سأل ربه تعالى من أدنى أهل الجنة منزلة؟ فقال : رجل يجيىء بعدما دخل أهل الجنة الجنة فيقال له ادخل الجنة فيقول رب وكيف وقد نزل الناس منازلهم وأخذوا أخذهم فيقال له : أترضى أن يكون لك مثل ملك من ملوك الدنيا فيقول رضيت يا رب فيقول لك ذلك ومثله ومثله فيقول في الخامسة رضيت يا رب فيقول هذا لك وعشرة أمثاله ولك ما اشتهت نفسك ولذت عينك فيقول رضيت يا رب قال موسى عليه السلام : فمن أعلاهم منزلة؟ فقال أولئك الذين أردت غرس كرامتهم بيدي وختمت عليها فلم تر عين ولم تسمع أذن ولم يخطر على قلب بشر والكل فوز لكن الفوز بالأعلى فوز عظيم ألا ترى أنه لا تستوي الرعية والسلطان في الدنيا فإن كل للرعية عباء فللسلطان قباء وإن كان لهم حجرة فله غرفة وإن كان لهم كسرة خبز فله ألوان نعمة وهكذا فقد تفاوتت الهمم في الدنيا واختلف الأغراض ولذا تفاوت المراتب في العقبى وتباين الأعواض فمن وجد الله تعالى وجد الجنة أيضاً بكل ما فيها ولكن ليس كل من يجد الجنة بأسرها يصل إلى الله تعالى والإنسان به والاحتظاظ بلقائه المستغرق جميع الأوقات وشهوده المستوعب لكل الحالات فكن عالي الهمة فإن علو الهمة من الإيمان وغاية الإيمان الإحسان ونهايته الاستغراق في شهود المنان ﴿أَذَالِكَ خَيْرٌ نُّزُلا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ﴾ الهمزة للتقرير والمراد حمل الكفار على إقرار مدخولها وذلك إشارة إلى نعيم الجنة.
وخير وارد على سبيل التهكم والاستهزاء بهم وانتصاب نزلاً على الحالية وهو ما يهيأ من الطعام الحاضر للنازل أي : الضيف ومنه إنزال الأجناد لأرزاقهم.
والزقوم : اسم شجرة صغيرة الورق مرة كريهة الرائحة تكون بتهامة يعرفها المشركون سميت بها الشجرة الموصوفة بقوله إنها شجرة الخ.
وفي "المفردات" : شجرة الزقوم عبارة عن أطعمة كريهة في النار ومنه استعير زقم فلان وتزقم إذا ابتلع شيئاً كريهاً.
جزء : ٧ رقم الصفحة : ٤٤٤
والمعنى : أن نعم الجنة والرزق المعلوم للمؤمنين فيها خير طعاماً يعني أن الرزق المعلوم نزل أهل الجنة وأهل النار نزلهم شجرة الزقوم أي : ثمرها فأيهما خير في كونهما نزلاً وفي ذكره دلالة على أن ما ذكره من النعيم لأهل الجنة بمنزلة ما يعد ويرفع للنازل ولهم وراء ذلك ما تقصر عنه الإفهام وكذلك الزقوم لأهل النار ويقال أصل النزل الفضل والزيادة والريع ومنه قولهم العسل ليس من إنزال الأرض أي : من ريعها وما يحصل منه فاستعير للحاصل من الشيء فانتصاب نزلاً على التمييز.
والمعنى أذلك الرزق المعلوم الذي حاصله اللذة والسرور خير حاصلاً أم شجرة الزقوم التي حاصلها الألم والغم ﴿إِنَّا جَعَلْنَـاهَا فِتْنَةً لِّلظَّـالِمِينَ﴾ محنة وعذاباً لهم في الآخرة فإن الفتن في اللغة الإحراق أو ابتلاء في الدنيا حيث فتنوا وضلوا عن الحق بسببه فإن الفاتن قد يطلق على المضل عن الحق فإن الكفار لما سمعوا كون هذه الشجرة في النار فتنوا به في دينهم وتوسلوا به إلى الطعن
٤٦٤
في القرآن والنبوة والتمادي في الكفر وقالوا : كيف يمكن ذلك والنار تحرق الشجر ولم يعلموا أن من قدر على خلق حيوان يعيش في النار ويتلذذ بها أقدر على خلق الشجرة في النار وحفظه من الإحراق ﴿إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِى أَصْلِ الْجَحِيمِ﴾ أي : تنبت في قعر جهنم فمنبتها في قعرها وأغصانها ترتفع إلى دركاتها ولما كان أصل عنصرها النار لم تحرق بها كسائر الأشجار ألا ترى أن السمك لما تولد في الماء لم يغرق بخلاف ما لم يتولد ليه.
ولعله رد على ابن الزبعري وصناديد قريش وتجهيل لهم حيث قال ابن الزبعري لهم : إن محمداً يخوفنا بالزقوم والزقوم بلسان البربر الزبد والتمر فأدخلهم أبو جهل بيته وقال : يا جارية زقمينا فأتتهم بالزبد والتمر فقال استهزاء تزقموا فهذا ما توعدكم به محمد فقال تعالى :﴿إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِى أَصْلِ الْجَحِيمِ﴾ فليس الزقوم ما فهم هؤلاء الجهلة الضلال ﴿طَلْعُهَا﴾ أي : حملها وثمرها الذي يخرج منها ويطلع مستعار من طلع النخلة لمشاركته له في الشكل.
والطلع شيء يخرج من النخل كأنه نعلان مطبقان والحمل بينهما منضود ﴿كَأَنَّهُ﴾ (كويا او) ﴿رُءُوسُ الشَّيَـاطِينِ﴾ في تناهي القبح والهول لأن صورة الشيطان أقبح الصور وأكرهها في طباع الناس وعقائدهم ومن ثمة إذا وصفوا شيئاً بغاية القبح والكراهة قالوا : كأنه شيطان وإن لم يروه فتشبيه الطلع برؤوس الشياطين تشبيه بالمخيل كتشبيه الفائق في الحسن بالملك قال تعالى حكاية
جزء : ٧ رقم الصفحة : ٤٤٤


الصفحة التالية
Icon