﴿مَا هَـاذَا بَشَرًا إِنْ هَـاذَآ إِلا مَلَكٌ كَرِيمٌ﴾ (يوسف : ٣١).
وفيه إشارة إلى أن من كان ههنا معلوماته في قبح صفات الشياطين يكون هناك مكافأته في قبح صورة الشياطين ﴿فَإِنَّهُمْ﴾ (بس دوز خيان) ﴿لاكِلُونَ مِنْهَا﴾ أي : من الشجرة ومن طلعها فالتأنيث مكتسب من المضاف إليه ﴿فَمَالِـاُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ﴾ لغلبة الجوع أو للقسر على أكلها وإن كرهوها ليكون ذلك نوعاً آخر من العذاب.
وفيه إشارة إلى أنهم كانوا لها في مزرعة الآخرة أعني الدنيا زارعين فما حصدوا إلا ما زرعوا.
والمالىء : اسم فاعل من ملأ الإناء ماء يملؤه فهو مالىء ومملوء.
والبطون جمع بطن وهو خلاف الظهر في كل شيء ﴿ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا﴾ أي : على الشجرة التي ملأوا منها بطونهم بعدما شبعوا منها وغلبهم العطش وطال استسقاؤهم كما ينبىء عنه كلمة ثم فتكون للتراخي الزماني ويجوز أن تكون للرتبى من حيث أن كراهة شرابهم وبشاعته لما كانت أشد وأقوى بالنسبة إلى كراهة طعامهم كان شرابهم أبعد من طعامهم من حيث الرتبة فيكونون جامعين بين أكل الطعام الكريه البشيع وشرب شراب الأكره الأبشع ﴿لَشَوْبًا مِّنْ حَمِيمٍ﴾ الشوب الخلط والحميم الماء الحار الذي قد انتهى حره أي : شراباً من دم أو قيح أسود أو صديد ممزوجاً مشوباً بماء حار غاية الحرارة يقطع إمعاءهم ﴿ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ﴾ أي : مصيرهم ﴿لالَى الْجَحِيمِ﴾ أي : إلى درجاتها أو إلى نفسها فإن الزقوم والحميم نزل يقدّم إليهم قبل دخولها وقيل الجحيم خارج عنها لقوله تعالى :﴿هَـاذِه جَهَنَّمُ الَّتِى يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ * يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ ءَانٍ﴾ (الرحمن : ٤٣ ـ ٤٤) يذهب بهم عن مقارهم ومنازلهم من الجحيم إلى شجره الزقوم فيأكلون منها إلى أن يتملئوا ثم يسقون من الحميم ثم يردون إلى الجحيم كما يرد الإبل عن موارد الماء ويؤيده قراءة ابن مسعود "ثم إن منقلبهم" وفي الحديث :"يا أيها الناس اتقوا الله ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون فلو أن قطرة من الزقوم قطرت لأمرّت
٤٦٥
على أهل الدنيا معيشتها فكيف بمن هو طعامه وشرابه وليس له طعام غيره" ﴿إِنَّهُمْ أَلْفَوْا ءَابَآءَهُمْ ضَآلِّينَ﴾ تعليل لاستحقاقهم ما ذكر من فنون العذاب بتقليد الآباء في الدين من غير أن يكون لهم ولآبائهم شيء يتمسك به أصلاً.
والإلفاء بالفاء الوجدان وبالفارسية :(يافتن) وضالين مفعول ثان لقوله ألفوا بمعنى وجدوا.
جزء : ٧ رقم الصفحة : ٤٤٤
والمعنى : وجدوهم ضالين في نفس الأمر عن الهدى وطلب الحق ليس لهم ما يصلح شبهة فضلاً عن صلاحية الدليل ﴿فَهُمْ﴾ أي : الكافرون الظالمون ﴿عَلَى ءَاثَارِهِمْ﴾ أي : آثار الآباء جمع أثر بالفارسية (ى) ﴿يُهْرَعُونَ﴾ يسرعون من غير أن يتدبروا أنهم على الحق أو لا مع ظهور كونهم على الباطل بأدنى تأمل، والإهراع : الإسراع الشديد كأنهم يزعجون ويحثون حثاً على الإسراع على آثارهم ﴿وَلَقَدْ﴾ جواب قسم أي : وبالله لقد ﴿ضَلَّ﴾ (كمراه شد) ﴿قَبْلَهُمْ﴾ أي : قبل قومك قريش ﴿أَكْثَرُ الاوَّلِينَ﴾ من الأمم السابقة أضلهم إبليس ولم يذكر لأن في الكلام دليلاً فاكتفى بالإشارة ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِم﴾ (وبتحقيق ما فرستاديم درميان ايشان) يعني الأكثرين ﴿مُّنذِرِينَ﴾ أي : أنبياء أولى عدد كثير ذوي شأن خطير بينوا لهم بطلان ما هم عليه وأنذروهم عاقبته الوخيمة ﴿فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَـاقِبَةُ الْمُنذَرِينَ﴾ أي : آخر أمر الذين أنذروا من الهول والفظاعة والهلاك لما لم يلتفتوا إلى الإنذار ولم يرفعوا لهم رأساً.
والخطاب إما للرسول أو لكل أحد ممن يتمكن من مشاهدة آثارهم وسماع أخبارهم وحيث كان المعنى أنهم أهلكوا إهلاكاً فظيعاًاستثنى منهم المخلصون بقوله تعالى :﴿إِلا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ﴾ أي : الذين أخلصهم الله بتوفيقهم للإيمان والعمل بموجب الإنذار يعني أنهم نجوا مما أهلك به كفار الأمم الماضية.
وفي الآية تسلية لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ببيان أنه تعالى أرسل قبله رسلاً إلى الأمم الماضية فأنذروهم بسوء عاقبة الكفر والضلال فكذبهم قومهم ولم ينتهوا بالإنذار وأصروا على الكفر والضلال فصبر الرسل على أذاهم واستمروا على دعوتهم إلى الله تعالى فاقتد بهم وما عليك إلا البلاغ ثم إن عاقبة الإصرار الهلاك وغاية الصبر النجاة والفوز بالمراد.
فعلى العاقل تصحيح العمل بالإخلاص وتصحيح القلب بالتصفية.
قال الواسطي : مدار العبودية على ستة أشياء : التعظيم والحياء والخوف والرجاء والمحبة والهيبة.
فمن ذكر التعظيم يهيج الإخلاص.
ومن ذكر الحياء يكون العبد على خطرات قلبه حافظاً.
ومن ذكر الخوف يتوب العبد من الذنوب ويأمن من المهالك.
ومن ذكر الرجاء يسارع إلى الطاعات.
ومن ذكر المحبة يصفو له الأعمال.
ومن ذكر الهيبة يدع التملك والاختيار ويكون تابعاً في إرادته لإرادة الله تعالى ولا يقول إلا سمعنا وأطعنا.