وإنما أمر به في المنام دون اليقظة مع أن غالب وحى الأنبياء أن يكون في اليقظة ليكون مبادرتهما إلى الامتثال أدل على كمال الإنقياد والإخلاص.
قالوا : رؤيا الأنبياء حق من قبيل الوحي فإنه يأتيهم الوحي من الله إيقاظاً إلا لا تنام قلوبهم أبداً ولأنه لطهارة نفوسهم ليس للشيطان عليهم سبيل.
وفي "أسئلة الحكم" لم أمر الله تعالى إبراهيم بذبح ولده في المنام ورؤيا الأنبياء حق وقتل الإنسان بغير حق من أعظم الكبائر.
قيل : أمره في المنام دون اليقظة لأنه ليس شيء أبغض إلى الله من قتل المؤمن ﴿سَتَجِدُنِى﴾ (زود باشدكه يابى مرا) ثم استعان بالله في الصبر على بلائه حيث استثنى فقال :﴿إِن شَآءَ اللَّهُ﴾ ومن أسند المشيئة إلى الله تعالى والتجأ إليه لم يعطب ﴿مِنَ الصَّـابِرِينَ﴾ على الذبح أو على قضاء الله تعالى قال : الذبيح من الصابرين أدخل نفسه في عداد الصابرين فرق عليه وموسى عليه السلام تفرق بنفسه حيث قال للخضر :﴿سَتَجِدُنِى إِن شَآءَ اللَّهُ صَابِرًا﴾ (الكهف : ٦٩) فخرج والتفويض أسلم من التفرد وأوفق لتحصيل المرام ولما كان إسماعيل في مقام التسليم والتفويض إلى الله تعالى وقف وصبر ولما كان موسى في صورة المتعلم ومن شأن المتعلم أن يتعرض لأستاذه بالاعتراض فيما لم يفهمه خرج ولم يصبر.
وقال بعضهم : ظاهر موسى تعرض وباطنه تسليم أيضاً لأنه إنما اعترض على الخضر بغيرة الشرع ﴿فَلَمَّآ أَسْلَمَا﴾ أي : استسلم إبراهيم وابنه لأمر الله وانقادا وخضعا له وبالفارسية :(س هنكام كه كردن نهادند خدايرا) يقال : سلم لأمر الله وأسلم واستسلم بمعنى واحد قرىء بهن جميعاً وأصلها من قولك سلم هذا لفلان إذا خلص له ومعناه سلم أن ينازع فيه وقولهم سلم لأمر الله وأسلم له منقولان منه ومعناهما أخلص نفسهوجعلها سالمة وكذلك معنى استسلم استخلص نفسهتعالى.
وعن قتادة في أسلما أسلم إبراهيم ابنه وإسماعيل نفسه ﴿وَتَلَّه لِلْجَبِينِ﴾.
قال في "القاموس" : تله صرعه وألقاه على عنقه وخده.
والجبين أحد جانبي الجبهة فللوجه فوق الصدغ جبينان عن يمين الجبهة وشمالها.
قال الراغب : أصل التل المكان المرتفع والتليل العنق وتله للجبين أسقطه على التل أو على تليله.
وقال غيره صرعه على شقه فوقع جبينه على الأرض لمباشرة الأمر بصبر وجلد ليرضيا الرحمن ويحزنا الشيطان وكان ذلك عند الصخرة من منى أو في الموضع المشرف على مسجد منى أو في المنحر الذي ينحر فيه اليوم.
جزء : ٧ رقم الصفحة : ٤٤٤
ـ وروي ـ أن إبليس عرض لإبراهيم عند جمرة العقبة فرماه بسبع حصيات حتى ذهب ثم عرض له عند الجمرة الكبرى فرماه بسبع حصيات حتى ذهب ثم مضى إبراهيم لأمر الله تعالى وعزم على الذبح ومنه شرع رمي الجمرات في الحج فهو
٤٧٤
من واجبات الحج يجب بتركه الفدية باتفاق الأئمة.
قال في "التأويلات النجمية" : ومن دقة النظر في رعاية آداب العبودية في حفظ حق الربوبية في القصة أن إسماعيل أمر أباه أن يشد يديه ورجليه لئلا يضطرب إذا مسه ألم الذبح فيعاتب ثم لما هم بذبحه قال : افتح القيد عني فإني أخشى أن أعاتب فيقال لي أمشدود اليد حبيب يطيعني :
ولو بيد الحبيب سقيت سماً
لكان السم من يده يطيب
وقد قيل ضرب الحبيب يطيب :
ازدست تومشت بردهان خوردن
خوشتركه بدست خويش نان خوردن
﴿وَنَـادَيْنَـاهُ أَن﴾ مفسرة لمفعول ناديناه المقدر أي : ناديناه بلفظ هو قولنا يا اإِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّءْيَآ} بالعزم على الإتيان بالمأمور به وترتيب مقدماته وبالفارسية :(بدرستى كه راست كردى خوابى كه ديده بودى).
وفي "شرح الفصوص" للمولى الجامي أي : حققت الصورة المرئية وجعلتها صادقة مطابقة للصورة الحسية الخارجية بالإقدام على الذبح والتعرض لمقدماته وقد قيل إنه أمرّ السكين بقوته على حلقه مراراً فلم يقطع ثم وضع السكين على قفاه فانقلب السكين.
آن توكل تو خليلانه ترا
تانبرد تيغت اسماعيل را
فعند ذلك وقع النداء.
وفي الخبر سأل نبينا عليه السلام جبريل : هل أصابك مشقة وتعب في نزولك من السماء قال : نعم في أربعة مواضع :
الأول : حين ألقي إبراهيم في النار كنت تحت العرش قال الله تعالى : أدرك عبدي فأدركته وقلت له : هل لك من حاجة فقال : أما إليك فلا.
والثاني : حين وضع إبراهيم السكين على حلق إسماعيل كنت تحت العرش قال الله تعالى : أدرك عبدي فأدركته طرفة عين فقلبت السكين.
والثالث : حين شجك الكفار وكسروا رباعيتك يوم أحد قال الله تعالى : أدرك دم حبيبي فإنه لو سقط من دمه على الأرض قطرة ما أخرجت منها نباتاً ولا شجراً فقبضت دمك بكفي ثم رميته في الهواء.
والرابع : حين ألقي يوسف في الجب قال الله تعالى : أدرك عبدي فأدركته قبل أن وصل إلى قعر الجب وأخرجت حجراً من أسفل البئر فأجلسته عليه.


الصفحة التالية
Icon