والثالث : أنه محمول على التسمح كما سبق في قربان هابيل.
فإن قلت : قد صح أن عبد المطلب نذر أن يذبح ولداً إن سهل الله حفر بئر زمزم أو بلغ بنوه عشرة فلما سهل الله فخرج السهم على عبد الله والد رسول الله منعه أخواله ففداه بمائة من الإبل ولذلك سنت الدية بمائة فقد روي أنه فرق لحوم القرابين المذكورة إلى الفقراء ولم تأكلها النار فكيف كان سنة إلهية بين جميع الملل.
قلت : المتقرب إن كان جاهلياً فلا شك أن قربانه غير معتد به وإن كان إسلامياً فلا بد أن يكون في محضر نبي من الأنبياء إذ هو الذي يدعو فتأتي النار كما لا يخفى على من له حظ أو في من علم التفسير والتأويل.
وذهب إلى الثاني بعض أرباب الحقائق والتوفيق بين الروايتن عند التحقيق أن صورة الذبح جرى في الظاهر إلى حقيقة إسماعيل أولاً ثم سري ثانياً إلى حقيقة إسحاق لتحققه أيضاً بمقام الإرث الإبراهيمي من التسليم والتفويض والإنقياد الذي ظهر في صورة الكبش ولهذا السر اشتركا في البشارة الإلهية ﴿فَبَشَّرْنَـاهُ بِغُلَـامٍ حَلِيمٍ﴾ فكان إسماعيل وإسحاق مختلفين في الصورة والتشخص متفقين في المعنى والحقيقة فإن شئت قلت أن الذبيح هو إسماعيل وإن شئت قلت : إنه إسحاق فإنت مصيب في كل من القولين في الحقيقة لما عرفت أن أحدهما عين الآخرة في التحقق بسر إبراهيم عليه وعليهما السلام إلى يوم القيامة ﴿وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ﴾ أي : أبقينا على إبراهيم ﴿فِى الاخِرِينَ﴾ من الأمم ﴿سَلَـامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ﴾ أي : هذا الكلام بعينه كما سبق في قصة نوح ﴿كَذَالِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ﴾ الكاف متعلقة بما بعدها وذلك إشارة إلى إبقاء ذكره الجميل فيما بين الأمم لا إلى ما أشير إليه فيما سبق فلا تكرار أي : مثل ذلك الجزاء الكامل نجزي المحسنين لأجزاء أدنى منه يعني أن إبراهيم من المحسنين وما فعلناه به مما ذكر مجازاة له على إحسانه ﴿إِنَّه مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ﴾ الراسخين في الإيمان على وجه الإيقان والإطمئنان.
جزء : ٧ رقم الصفحة : ٤٤٤
وفي "التأويلات النجمية" : أي : من عبادنا المخلصين لا من عباد الدنيا والهوى والسوى ﴿وَبَشَّرْنَـاهُ﴾ أي : إبراهيم، والتبشير بالفارسية :(مده دادن) وهو الإخبار بما يظهر سروراً في المخبر به ومنه تباشير الصبح لما ظهر من أوائل ضوئه ﴿بِإِسْحَـاقَ﴾ من سارة رضي الله عنها ﴿نَبِيًّا مِّنَ الصَّـالِحِينَ﴾ أي : مقضياً بنبوته مقدراً كونه من الصالحين
٤٧٨
وبهذا الاعتبار وقعا حالين ولا حاجة إلى وجود المبشر به وقت البشارة فإن وجود ذي الحال ليس بشرط وإنما الشرط مقارنة تعلق الفعل به لاعتبار معنى الحال.
وفي "التأويلات النجمية" :﴿نَبِيًّا﴾ أي : ملهماً من الحق تعالى كما قال بعضهم حدثني قلبي عن ربي ﴿مِنَ الصَّـالِحِينَ﴾ أي : من المستعدين لقبول الفيض الإلهي بلا واسطة انتهى.
وفي ذكر الصلاح بعد النبوة تعظيم لشأنه وإيماء إلى أنه الغاية لها لتضمنها معنى الكمال والتكميل بالفعل على الإطلاق وقد سبق الكلام المشبع فيه في أواخر سورة يوسف ﴿وَبَـارَكْنَا عَلَيْهِ﴾ على إبراهيم في أولاده، وبالفارسية :(وبركت داديم بر ابراهيم) ﴿وَعَلَى إِسْحَـاقَ﴾ بأن أخرجنا من صلبه أنبياء من بني إسرائيل وغيرهم كأيوب وشعيب أو أفضنا عليهما بركات الدين والدنيا ﴿وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ﴾ في عمله أو لنفسه بالإيمان والطاعة ﴿وَظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ﴾ بالكفر والمعاصي ﴿مُّبِينٌ﴾ ظاهر ظلمه.
وفيه تنبيه على أن الظلم في أولادها وذريتهما لا يعود عليهما بعيب ولا نقيصة وأن المرء يجازي بما صدر من نفسه طاعة أو معصية لا بما صدر من أصله وفرعه كما قال :﴿وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾ (الأنعام : ١٦٤) وأن النسب لا تأثير له في الصلاح والفساد والطاعة والعصيان فقد يلد الصالح العاصي والمؤمن الكافر وبالعكس ولو كان ذلك بحسب الطبيبعة لم يتغير ولم يتخلف.
وفيه قطع لأطماع اليهود المفاخرين بكونهم أولاد الأنبياء وفي الحديث "يا بني هاشم لا تأتيني الناس بأعمالهم وتأتوني بأنسابكم" الواو في تأتوني واو الصرف ولهذا نصب وتأتوني حذف نون تأتون علامة للنصب وهذه النون نون الوقاية أي : لا يكون أعمال الناس وأنسابكم مجتمعين فائتوني بالأعمال والغرض تقبيح افتخارهم لديه عليه السلام بالأنساب حين يأتي الناس بالأعمال.
جزء : ٧ رقم الصفحة : ٤٤٤
أتفخر باتصالك من عليّ
وأصل البولة الماء القراح
وليس بنافع نسب زكي
تدنسه صنائعه القباح
وقال بعضهم :
وما ينفع الأصل من هاشم
إذا كانت النفس من باهله
وقبيلة باهلة عرفوا بالدناءة لأنهم كانوا يأكلون بقية الطعام مرة ثانية ويأكلون نقي عظام الميتة :
كر بنكرى باصل همه بنى آدمند
زان اعتبار جمله عزيز ومكرمند
بيش اندناس صورت نسناس سيرتان
خلقي كه آدمند بخلق وكرم كمند


الصفحة التالية
Icon