وفي المثل :"ذهب الناس وما بقي إلا النسناس" وهم الذين يتشبهون بالناس وليسوا بالناس أو هم خلق في صورة الناس وقال بعضهم :
أصل را اعتبار ندان نيست
روى همو ورد خندان نيست
مى زغوره شود شكر ازنى
عسل از نحل حاصلست بقى
فعلى العاقل ترك الاغترار بالأنساب والأحساب والاجتهاد فيما ينفعه يوم الحساب.
وكان زين العابدين رضي الله عنه يقول : اللهم إني أعوذ بك أن تحسن في لوامع العيون علانيتي وتقبح سريرتي ومن الله التوفيق ﴿وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَـارُونَ﴾ المنان في صفة الله تعالى المعطي ابتداء من غير أن يطلب عوضاً يقال منّ عليه منا إذا أعطاه شيئاً ومنّ عليه منة إذا أعد
٤٧٩
نعمته عليه وامتن وهو مذموم من الخلق لا من الحق كما قال تعالى :﴿بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ﴾ والمعنى وبالله لقد أنعمنا على موسى وأخيه هارون بالنبوة وغيرها من النعم الدينية والدنيوية ﴿وَنَجَّيْنَـاهُمَا وَقَوْمَهُمَا﴾ وهم بنو إسرائيل ﴿مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ﴾ من تعذيب فرعون وأذى قومه القبط وقد سبق معنى الكرب في هذه السورة ولما كانت النتيجة عبارة عن التخليص من المكروه وهي لا تقتضي الغلبة أتبعها بقوله :﴿وَنَصَرْنَـاهُمْ﴾ أي : موسى وهارون وقومهما ﴿فَكَانُوا﴾ بسبب ذلك ﴿هُمُ﴾ فحسب ﴿الْغَـالِبِينَ﴾ على عدوهم فرعون وقومه غلبة لا غاية وراءها بعد أن كان قومهما في أسرهم وقسرهم مقهورين تحت أيديهم.
وفيه إشارة إلى تنجية موسى القلب وهارون السر من غرق بحر الدنيا وماء شهواتها ونصرتهما مع صفاتهما على فرعون النفس وصفاتها فليصبر المجاهدون على أنواع البلاء إلى أن تظهر آثار الولاء فإن آخر الليل ظهور النهار وغاية الخريف والشتاء طلوع الأزهار والأنوار، قال الحافظ :
جزء : ٧ رقم الصفحة : ٤٤٤
ه جورها كه كشيدند بلبلان ازدى
ببوى آنكه دكر ثوبهار باز آمد
﴿وَءَاتَيْنَـاهُمَا﴾ بعد ذلك المذكور من النتيجة ﴿الْكِتَـابَ الْمُسْتَبِينَ﴾ أي : البيلغ والمتناهي في البيان والتفصيل وهو التوراة فإنه كتاب مشتمل على جميع العلوم التي يحتاج إليها في مصالح الدين والدنيا قال تعالى :﴿إِنَّآ أَنزَلْنَا التَّوْرَاـاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ﴾.
فاستبان مبالغة بان بمعنى ظهر ووضح وجعل الكتاب بالغاً في بيانه من حيث أنه لكماله في بيان الأحكام وتمييز الحلال عن الحرام كأنه يطلب من نفسه أن يبينها ويحمل نفسه على ذلك وقيل : هذه السين كهي في قوله يستسخرون فإن بان واستبان وتبين واحد نحو عجل واستعجل وتعجل فيكون معناه الكتاب المبين ﴿وَهَدَيْنَـاهُمَا﴾ بذلك الكتاب ﴿الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ الموصل إلى الحق والصواب بما فيه من تفاصيل الشرائع وتفاريع الأحكام.
وفي "كشف الأسرار" : وهديناهما دين الله الإسلام أي : ثبتناهما عليه واستعير الصراط المستقيم من معناه الحقيقي وهو الطريق المستوي للدين الحق وهو ملة الإسلام وهذا أمر تحقق عقلاً فقد نقل اللفظ إلى أمر معلوم من شأنه أن ينص عليه ويشار إليه إشارة عقلية ولأجل تحققه سميت هذه الاستعارة بالتحقيقية.
وفيه إشارة إلى إيتاء العلوم الحقيقية والإلهامات الربانية والهداية بذلك إلى الحضرة الواحدية والأحدية ﴿وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِى الاخِرِينَ * سَلَـامٌ عَلَى مُوسَى وَهَـارُونَ﴾ أي : أبقينا عليهما فيما بين الأمم الآخرين هذا الذكر الجميل والثناء الجزيل فهم يسلمون عليهما يقولون سلام على موسى وهارون ويدعون لهما دعاء دائماً إلى يوم الذين ﴿إِنَّا كَذَالِكَ﴾ أي : مثل هذا الجزاء الكامل ﴿نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ﴾ الذين هما من جملتهم لاجزاء قاصراً عنه ﴿إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ﴾ يشير إلى أن طريق الإحسان هو الإيمان فالإيمان هو مرتبة الغيب والإحسان هو مرتبة المشاهدة ولما كان الإيمان ينشأ عن المعرفة كان الأصل معرفة الله والجري على مقتضى العلم فالإنسان من حيث ما يتغذى نبات ومن حيث ما يحس ويتحرك حيوان ومن حيث الصورة التخطيطية فكصورة في جدار وإنما فضيلته بالنطق والعلم والفهم وسائر الكمالات البشرية وفي الحديث :"ما فضلكم
٤٨٠
أبو بكر بكثير صوم ولا صلاة ولكن بسرّ وقر في صدره" ومن آثار هذا السر الموقور ثباته يوم موت الرسول عليه السلام وعدم تغيره كسائر الأصحاب حيث صعد المنبر وقرأ ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ﴾ (آل عمران : ١٤٤) الآية فكان إيمانه أقوى وثباته أوفى ومشاهدته أعلى ﴿وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ أي : إلى بني إسرائيل وهو الياس بن ياسين بن شير بن فخاص بن العيزار بن هارون بن عمران وهو من سبط هارون أخي موسى بعث بعد موسى هذا هو المشهور وعليه الجمهور.
جزء : ٧ رقم الصفحة : ٤٤٤


الصفحة التالية
Icon