قال ابن الشيخ جملتان استفهاميتان ليس لأحديهما تعلق بالأخرى من حيث الإعراب استفهم أولاً عما استقر لهم وثبت استفهام إنكار ثم استفهم استفهام تعجب من حكمهم هذا الحكم الفاسد وهو أن يكون أحسن الجنسين لأنفسهم وأخسهما لربهم ﴿أَفَلا تَذَكَّرُونَ﴾ بحذف إحدى التائين من تتذكرون والفاء للعطف على مقدر أي : أتلاحظون ذلك فلا تتذكرون بطلانه فإنه مركوز في عقل زكي وغبي ثم انتقل إلى تبكيت آخر فقال :﴿أَمْ لَكُمْ سُلْطَـانٌ مُّبِينٌ﴾ أي : هل لكم حجة واضحة نزلت عليكم من السماء بأن الملائكة بنات الله ضرورة أن الحكم بذلك لا بد له من سند حسي أو عقلي وحيث انتفى كلاهما فلا بد من سند نقلي ﴿فَأْتُوا بِكِتَـابِكُمْ﴾ الناطق بصحة دعواكم وبالفارسية :(س بياريد آن كتاب منزل را) فالباء للتعدية ﴿إِن كُنتُمْ صَـادِقِينَ﴾ فيها فإذا لم ينزل عليكم كتاب سماوي فيه ذكر ذلك الحكم فلم تصرون على الكذب ثم التفت إلى الغيبة للإيذان بانقطاعهم عن الجواب وسقوطهم عن درجة الخطاب واقتضاء حالهم أن يعرض عنهم ويحكى جناياتهم لآخرين فقال :﴿وَجَعَلُوا بَيْنَهُ﴾ تعالى ﴿وَبَيْنَ الْجِنَّةِ﴾ الجنة بالكسر جماعة الجن والملائكة كما في "القاموس" والمراد هنا الملائكة
٤٩٢
وسموا جنة لاجتنانهم واستتارهم عن الأبصار ومنه سمي الجنين وهو المستور في بطن الأم والجنون لأنه خفاء العقل.
والجنة بالضم الترس لأنه يجن صاحبه ويستره.
والجنة بالفتح لأنها كل بستان ذي شجر يستر بأشجاره الأرض فمن له اجتنان عن الأعين جنس يندرج تحته الملائكة والجن المعروف.
قالوا : الجن واحد ولكن من خبث من الجن ومرد وكان شراً كله فهو شيطان ومن طهر منهم ونسك وكان خيراً فهو ملك.
قال الراغب الجن يقال على وجهين : أحدهما للروحانيين المستترة عن الحواس كلها بإزاء الإنس فعلى هذا يدخل فيه الملائكة والشياطين فكل ملائكة جن وليس كل جن ملائكة.
وقيل : بل الجن بعض الروحانيين وذلك أن الروحانيين ثلاثة أخيار وهم الملائكة وأشرار وهم الشياطين وأوساط فهم أخيار وأشرار وهم الجن ويدل على ذلك قوله تعالى :﴿قُلْ أُوحِىَ إِلَىَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ﴾ إلى قوله :﴿وَمِنَّا الْقَـاسِطُونَ﴾ (الجن : ١٣ ـ ١٤) ﴿نَسَبًا﴾ النسب والنسبة اشتراك من جهة الأبوين وذلك ضربان نسب بالطول كالاشتراك بين الآباء والأبناء ونسب بالعرض كالنسبة بين الأخوة وبني العم وقيل فلان نسيب فلان أي : قريبه.
والمعنى وجعل المشركون بما قالوا نسبة بين الله وبين الملائكة وأثبتوا بذلك جنسية جامعة له وللملائكة.
وفي ذكر الله الملائكة بهذا الاسم في هذا الموضع إشارة إلى أن من صفته الاجتنان وهو من صفات الأجرام لا يصلح أن يناسب من لا يجوز عليه ذلك.
وفيه إشارة إلى جنة الإنسان وقصور نظر عقله عن كمال أحدية الله وجلال صمديته إذا وكل إلى نفسه في معرفة ذات الله وصفاته فيقيس ذاته على ذاته وصفاته فيثبت له نسباً كما له نسب ويثبت له زوجة وولداً كما له زوجة وولد ويثبت له جوارح كما له جوارح ويثبت له مكاناً كما له مكان تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً وهو يقول تبارك وتعالى ﴿لَيْسَ كَمِثْلِه شَىْءٌا وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ (الشورى : ١١) :
جزء : ٧ رقم الصفحة : ٤٤٤
جهان متفق بر الهيتش
فرومانده از كنه ماهيتش
بشر ما وراى جلالش نيافت
بصر منتهاى كمالش نيافت
نه ادراك در كنه ذاتش رسد
نه فكرت بنور صفاتش رسد
ثم إن هذا وهو قوله تعالى :﴿وَجَعَلُوا بَيْنَهُ﴾ الخ عبارة عن قولهم الملائكة بنات الله وإنما أعيد ذكره تمهيداً لما يعقبه من قوله :﴿وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ﴾ أي : وبالله لقد علمت الجنة التي عظموها بأن جعلوا بينها وبينه تعالى نسباً وهم الملائكة ﴿إِنَّهُمْ﴾ أي : الكفرة ﴿لَمُحْضَرُونَ﴾ النار معذبون بها لا يغيبون عنها لكذبهم وافترائهم في ذلك والمراد به المبالغة في التكذيب ببيان أن الذي يدعى هؤلاء المشركون لهم تلك النسبة ويعلمون أنهم أعلم منهم بحقيقة الحال يكذبونهم في ذلك ويحكمون بأنهم معذبون لأجله حكماً مؤكداً.
قال في "كشف الأسرار" :(نحويان كفتند ون ان ازقفاى علم وشهادت آيد مفتوح بايد مكر كه در خبر لام آيد آنكه مكسور باشد) كقول العرب أشهد أن فلاناً عاقل وإن فلاناً لعاقل وجهه أن إن المكسورة لا تغير معنى الجملة واللام الداخلة على الخبر لتأكيد معنى الجملة.
ثم إن الله تعالى نزه نفسه عما قالوه من الكذب فقال :﴿سُبْحَـانَ اللَّهِ﴾ أي : تنزه تعالى
٤٩٣


الصفحة التالية
Icon