وفي "التأويلات النجمية" : الحكمة عدل الوحي قال عليه السلام :"أوتيت القرآن وما يعدله" وهو الحكمة بدليل قوله تعالى :﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَـابَ وَالْحِكْمَةَ﴾ (الجمعة : ٢٠) فالحكمة موهبة للأولياء كما أن الوحي موهبة للأنبياء وكما أن النبوة ليست كسبية بل هي فضل الله يؤتيه من يشاء فكذلك الحكمة ليست كسبية تحصل بمجرد كسب العبد دون تعليم الأنبياء إياه طريق تحصيلها بل بإيتاء الله تعالى كما علمنا النبي عليه السلام طريق تحصيلها بقوله :"من أخلصأربعين صباحاً ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه" وكما أن القلب مهبط الوحي من إيحاء الحق تعالى كذلك مهبط الحكمة بإيتاء الحق تعالى كما قال تعالى :﴿وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا لُقْمَـانَ الْحِكْمَةَ﴾ وقال :﴿يُؤْتِى الْحِكْمَةَ مَن يَشَآءُا وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِىَ خَيْرًا كَثِيرًا﴾ (البقرة : ٢٦٩) فثبت أن الحكمة من المواهب لا من المكاسب لأنها من الأقوال لا من المقامات والمعقولات التي سمتها الحكماء حكمة ليست بحكمة فإنها من نتائج الفكر السليم من شوب آفة الوهم والخيال وذلك يكون للمؤمن والكافر وقلما يسلم من الشوائب ولهذا وقع الاختلاف في أدلتهم وعقائدهم ومن يحفظ الحكمة التي أوتيت لبعض الحكماء الحقيقية لم تكن هي حكمة بالنسبة إليه لأنه لم يؤت الحكمة ولم يكن هو حكيماً انتهى.
قال في "عرائس البيان" : الحكمة ثلاث : حكمة القرآن وهي حقائقه، وحكمة الإيمان وهي المعرفة، وحكمة البرهان وهي إدراك لطائف صنع الحق في الأفعال وأصل الحكمة إدراك خطاب الحق بوصف الإلهام.
قال شاه شجاع ثلاث من علامات الحكمة : إنزال النفس من الناس منزلتها، وإنزال الناس من النفس منزلتهم، ووعظهم على قدر عقولهم فيقوم بنفع حاضر.
وقال الحسين بن منصور : الحكمة سهام وقلوب المؤمنين أهدافها والرامي الله والخطأ معدوم.
وقيل : الحكمة هو النور الفارق بين الإلهام والوسواس ويتولد هذا النور في القلب من الفكر والعبرة وهما ميراث الحزن والجوع.
قال حكيم : قوت الأجساد المشارب والمطاعم وقوت العقل الحكمة والعلم.
وأفضل ما أوتي العبد في الدنيا الحكمة وفي الآخرة الرحمة والحكمة للأخلاق كالطب للأجساد.
وعن علي رضي الله عنه : روّحوا هذه القلوب واطلبوا لها طرائف الحكمة فإنها تمل كما تمل الأبدان وفي الحديث :"ما زهد عبد في الدنيا إلا أنبت الله الحكمة في قلبه وأنطق بها لسانه وبصّره عيوب الدنيا وعيوب نفسه وإذا رأيتم أخاكم قد زهد فاقربوا إليه فاستمعوا منه فإنه يلقى الحكمة".
جزء : ٧ رقم الصفحة : ٦٢
والزهد في اللغة ترك الميل إلى الشيء وفي اصطلاح أهل الحقيقة هو بعض الدنيا والإعراض عنها وشرط الزاهد أن لا يحنّ إلى ما زهد فيه وأدبه أن لا يذم المزهود فيه لكونه من جملة أفعال الله تعالى وليشغل نفسه بمن زهد من أجله.
قال عيسى عليه السلام : أين تنبت الحبة؟ قال : في الأرض فقال : كذلك الحكمة لا تنبت إلا في قلب مثل الأرض وهو موضع نبع الماء.
والتواضع سر من أسرار الله المخزونة عنده لا يهبه على الكمال إلا لنبيّ أو صديق فليس كل تواضع تواضعاً
٧٤
وهو أعلى مقامات الطريق وآخر مقام ينتهي إليه رجال الله وحقيقة العلم بعبودية النفس ولا يصح من العبودية رياسة أصلاً لأنها ضد لها.
ولهذا قال أبو مدين قدس سره : آخر ما يخرج من قلوب الصديقين حب الرياسة ولا تظن أن هذا التواضع الظاهر على أكثر الناس وعلى بعض الصالحين تواضع وإنما هو تملق بسبب غاب عنك وكل يتملق على قدر مطلوبه والمطلوب منه فالتواضع شريف لا يقدر عليه كل أحد فإنه موقوف على صاحب التمكين في العالم والتحقق في التخلق كذا في "مواقع النجوم" لحضرة الشيخ الأكبر قدس سره الأطهر.
ـ روي ـ أن لقمان كان نائماً نصف النهار فنودي يا لقمان هل لك أن يجعلك الله خليفة في الأرض وتحكم بين الناس بالحق؟ فأجاب الصوت فقال : إن خيرني ربي قبلت العافية ولم أقبل البلاء وإن عزم عليّ أي : جزم فسمعاً وطاعة فإني أعلم إن فعل بي ذلك أعانني وعصمني فقالت الملائكة بصوت لا يراهم لم يا لقمان؟ قال : لأن الحاكم بأشد المنازل وأكدرها يغشاه الظلم من كل مكان إن أصاب فبالحرى أن ينجو وإن أخطأ أخطأ طريق الجنة ومن يكن في الدنيا ذليلاً خير من أن يكون شريفاً ومن يختر الدنيا على الآخرة تفته الدنيا ولا يصيب الآخرة فعجبت الملائكة من حسن منطقه ثم نام نومة أخرى فأعطى الحكمة فانتبه وهو يتكلم بها.


الصفحة التالية
Icon