قال في "برهان القرآن" وفي سبأ.
﴿عَذَابَ النَّارِ الَّتِى كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ﴾ (سبأ : ٤٢) لأن النار في هذه السورة وقعت موقع الكناية لتقدم ذكرها والكنايات لا توصف بوصف العذاب وفي سبأ لم يتقدم ذكر النار فحسن وصف النار وهذه لطيفة فاحفظها انتهى.
وفي "التأويلات" :﴿وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا﴾ خرجوا عن سبيل الرشاد ووقعوا في بئر البعد والإبعاد ﴿فَمَأْوَاـاهُمُ النَّارُا كُلَّمَآ أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَآ أُعِيدُوا فِيهَا﴾ لأنهم في هذه الصفة عاشوا وفيها ماتوا فعليها حشروا وذلك أن دعاة الحق لما كانوا في الدنيا ينصحون لهم أن يخرجوا من أسفل الطبيعة بحبل الشريعة برعاية آداب الطريقة حملهم الشوق الروحاني على التوجه إلى الوطن الأصلي العلوي فلما عزموا على الخروج من الدركات الشهوانية أدركتهم الطبيعة النفسانية الحيوانية السفلية وإعادتهم إلى أسفل الطبيعة ﴿وَقِيلَ لَهُمْ﴾ يوم القيامة ﴿ذُوقُوا﴾ الخ لأنكم وإن كنتم معذبين في الدنيا ولكن ما كان لكم شعور بالعذاب الذي يجلل حواسكم الأخروية ولو كنتم تجدون ذوق العذاب لانتهيتم عن الأعمال الموجبة لعذاب النار كما أنكم لما ذقتم ألم عذاب النار في الدنيا احترزتم عنها غاية الاحتراز انتهى.
فالاحتراق وصف الكافر والفاسق وأما المؤمن والمطيع فقد قال عليه السلام في حقه :"تقول جهنم للمؤمن جز يا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبي" كما قال في "المثنوي" :
جزء : ٧ رقم الصفحة : ١٠٦
كويدش بكذر سبك اى محتسم
ورنه زاتشهاى تومرد آتشم
وذلك النور هو نور التوحيد وله تأثير جداً في عدم الاحتراق.
ـ كما حكي ـ أن مجذوباً كان يصاحب الشيخ الحاجي بيرام قدس سره وكان يحبه فلما توفي الشيخ جاء المجذوب إلى الشيخ الشهير بآق شمس الدين لكونه خليفة الشيخ الحاجي بيرام فقال له شمس الدين يوماً : يا أخي ما لبست كسوة الشيخ الحاجي بيرام في حياته فكيف لو لبستها من يدنا فقبل ففرح شمس الدين مع مريديه فعملوا ضيافة وألبسوه كسوة فلما لبسها ألقى نفسه في نار كانت في ذلك المجلس فلبث
١٢٣
فيها حتى احترقت الكسوة ولم يحترق المجذوب ثم خرج منها وقال : يا أيها الشيخ لا خير في كسوة تحرقها النار.
قال بعض العارفين : لو كان المشتاقون دون جماله في الجنة واويلاه ولو كانوا في الجحيم معه واشوقاه فمن كان مع المحبوب فهو لا يحترق ألا ترى أن النبي عليه الصلاة والسلام نظر إلى جهنم وما فيها ليلة المعراج ولم يحترق منه شعرة وكما أن النار تقول للمؤمن ذلك القول كذلك الجنة تقول كذلك الجنة تقول له حين يذهب إلى مقامه جز يا مؤمن إلى مقامك فإن نورك يذهب بزينتي ولطافتي كما قال في "المثنوي" :
كويدش جنت كذركن همو باد
ورنه كردد هره من دارم كساد
وذلك لأن نور المؤمن نور التجلي والتجلي إما يكون للمؤمن لا للجنة فيغلب نوره على الجنة التي ليس لها نور التجلي ألا ترى أن من جلس للوعظ وفي المجلس من هو أعلى حالاً منه في العلم يحصل له الانقباض والكساد فلا يطلب إلا قيام ذلك من المجلس فإذا كان هذا حال العالم مع من هو أعلم منه في الظاهر فقس عليه حال العالم مع من هو أعلم منه في الباطن فمن عرف مراتب أهل الله تعالى يسكت عند حضورهم لأن لهم الغلبة في كل شأن ولهم المعرفة بكل مقام قدس الله أسرارهم.
﴿وَلَنُذِيقَنَّهُم﴾ أي : أهل مكة.
والإذاقة بالفارسية :(شانيدن) ﴿مِّنَ الْعَذَابِ الادْنَى﴾ أي : الأقرب وهو عذاب الدنيا وهو ما محنوا به من القحط سبع سنين بدعاء النبي عليه السلام حين بالغوا في الأذية حتى أكلوا الجيف والجلود والعظام المحترقة والعلهز وهو الوبر والدم بأن يخلط الدم بأوبار الإبل وشوي على النار وصار الواحد منهم يرى ما بينه وبين السماء كالدخان وكذا ابتلوا بمصائب الدنيا وبلاياها مما فيه تعذيبهم حتى آل أمرهم إلى القتل والأسر يوم بدر ﴿دُونَ الْعَذَابِ الاكْبَرِ﴾ أي : قبل العذاب الأكبر الذي هو عذاب الآخرة فدون هنا بمعنى قبل.
وفي "كشف الأسرار" وتبعه الكاشفي في تفسيره (فروتر از عذاب بزركتركه خلودست در آتش) وذلك لأنه في الأصل أدنى مكان من الشيء فيقال هذا دون ذلك إذا كان أحط منه قليلاً ثم استعير منه للتفاوت في الأموال، (والرتب درلباب ازتفسير نقاش نقل كرده كه ادنى غلاى اسعارست واكبر خروج مهدي بشمشير آبدار وكفته اندخوارى دنيا ونكو نسارىء عقبا يا افتادن دركناه ودور افتادن ازدركاه قرب الله) :
جزء : ٧ رقم الصفحة : ١٠٦
دور ماندن از وصال او عذاب اكبر است
آتش سوز فراق ازهر عذابى بدترست
وفي "حقائق البقلى" : العذاب الأدنى حرمان المعرفة والعذاب الأكبر الاحتجاب عن مشاهدة المعروف.
وقال أبو الحسن الوراق : الأدنى الحرص على الدنيا والأكبر العذاب عليه ﴿لَعَلَّهُمْ﴾ أي : لعل من بقي منهم وشاهده ولعل من مثله بمعنى كي ﴿يَرْجِعُونَ﴾ ويتوبون عن الكفر والمعاصي.