﴿وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَـاسِرِينَ﴾ في صفقتك بسبب حبوط عملك واللام الأولى موطئة للقسم، والأخريان للجواب، وهو كلام وارد على طريقة الفرض لتهييج الرسل وإقناط الكفرة والإيذان بغاية شناعة الإشراك وقبحه، وكونه بحيث ينهى عنه من لا يكاد يمكن أن يباشره، فكيف بمن عداه.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٦٨
قال التفتازاني : فالمخاطب هو النبي عليه السلام، وعدم إشراكه مقطوع به لكن جيء بلفظ الماضي إبرازاً للإشراك في معرض الحاصل على سبيل الفرض، والتقدير : تعريضاً لمن صدر عنهم الإشراك بأنه قد حبطت أعمالهم، وكانوا من الخاسرين.
وقال في "كشف الأسرار" هذا خطاب مع الرسول عليه السلام، والمراد به غيره.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما : هذا أدب من الله لنبيه عليه السلام وتهديد لغيره ؛ لأن الله تعالى قد عصمه من الشرك ومداهنة الكفار.
وقال الكاشفي :(واصح آنست كه مخاطب بحسب ظاهر بيغمبر انند وازروى حقيقت افراد مسلمانان امت ايشان هريك رامى فرمايد كه اكر شرك أرى هر آينه تباه كردد كردار توكه دروقت ايمان واقع شده وهر آينه باشى از زيانكاران كه بعد ازوقت دولت دين بنكبت شرك مبتلى كردد).
قال ابن عطاء : هذا شرك الملاحظة والالتفات إلى غيره، وإطلاق الأحباط من غير تقييد بالموت عن الكفر يحتمل أن يكون من خصائصهم ؛ لأن الإشراك منهم أشد وأقبح، وأن يكون مقيداً بالموت كما صرح به في قوله تعالى :﴿وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِه فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوالَـائِكَ حَبِطَتْ أَعْمَـالُهُمْ﴾ (البقرة : ٢١٧) ()، فيكون حملاً للمطلق على المقيد، فمذهب الشافعي أن نفس الكفر غير محبط عنده، بل المحبط الموت على الكفر.
وأما عند غيره، فنفس الكفر محبط سواء مات عليه أم لم يمت.
وفي "المفردات" : حبط العمل على أضرب :
أحدها : أن تكون الأعمال دنيوية، فلا تغني عن الآخرة غناء كما أشار إليه تعالى بقوله :﴿وَقَدِمْنَآ إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَـاهُ هَبَآءً مَّنثُورًا﴾ (الفرقان : ٢٣).
والثاني : أن تكون أعمالاً أخروية لكن لم يقصد صاحبها بها وجه الله تعالى كما روي :"يؤتى برجل يوم القيامة، فيقال له : بم كان اشتغالك، فيقول بقراءة القرآن، فيقال له : كنت تقرأ ليقال : فلان قارىء.
وقد قيل ذلك، فيؤمر به إلى النار".
والثالث : أن تكون أعمالاً صالحة، لكن بإزائها سيئات تربى عليها.
وذلك هو المشار إليه بخفة الميزان.
انتهى.
وعطف الخسران على الحبوط من عطف المسبب على السبب.
وفي "التأويلات النجمية" : يشير إلى أن الإنسان، ولو كان نبياً لئن وكل إلى نفسه ليفتحن بمفتاح الشرك والرياء أبواب خزائن قهر الله على نفسه، وليحبطن عمله بأن يلاحظ غير الله بنظر المحبة، ويثبت معه في الإبداع سواه.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٦٨
﴿بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ﴾.
رد لما أمروه، ولولا دلالة التقديم على القصر، لم يكن كذلك، والفاء : جواب الشرط المحذوف، تقديره : لا تعبد ما أمرك الكفار بعبادته، بل إن عبدت، فاعبد الله، فحذف الشرط وأقيم المفعول مقامه.
﴿وَكُن مِّنَ الشَّـاكِرِينَ﴾ إنعامه عليك.
ومن جملته التوحيد والعبادة، وكذا النبوة والرسالة الحاصلتان بفضله وكرمه لا بسعيك وعملك.
واعلم أن الشكر على ثلاث درجات :
الأولى : الشكر على المحاب، وقد شاركت المسلمين في هذا الشكر اليهود والنصارى والمجوس.
والثانية : الشكر على المكاره.
وهذا الشاكر أول من يدعى إلى الجنة ؛ لأن الجنة حفت بالمكاره.
والثالثة : أن لا يشهد غير المنعم، فلا يشهد النعمة والشدة.
وهذا الشهود والتلذذ به أعلى اللذات ؛ لأنه في مقام السر.
فالعاقل يجتهد في الإقبال على الله،
١٣٣
والتوجه إليه من غير التفات إلى يمين وشمال.
روي : أن ذا النون المصري قدس سره : أراد التوضؤ من نهر فرأى جارية حسناء، فقالت لذي النون : ظننتك أولاً عاقلاً، ثم عالماً، ثم عارفاً، ولم تكن كذلك ؛ أي : لا عاقلاً ولا عالماً ولا عارفاً.
قال ذو النون : ولم قالت : فإن العاقل لا يكون بغير وضوء لعلمه بفضائله، والعالم لا ينظر إلى الحرام، فإن العالم لا بد وأن يكون عاملاً، والعارف لا يميل إلى غير الله، فإن مقتضى العرفان أن لا يختار على المحبوب الحقيقي سواه لكون حسنه من ذاته، وحسن ما سواه مستفاداً منه، والغير وإن كان مظهراً لتجليه، ولكن النظر إليه قيد والحضور في عالم الإطلاق هو التفريد الذي هو تقطيع الموحد عن الأنفس والآفاق :
خداست درد وجهان هست جاودان جامى
وما سواه خيال مزخرف باطل
نسأل الله سبحانه هذا التوحيد الحقيقي.


الصفحة التالية
Icon