روى عبد الله بن عباس رضي الله عنهما وعبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن حبراً من اليهود أتى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فقال : يا محمد أشعرت أن الله يضع يوم القيامة السماوات على أصبع والأرضين على أصبع.
والجبال على أصبع.
والماء والثرى والشجر على أصبع وجميع الخلائق على أصبع ثم يهزهنّ.
ويقول : أنا الملك ابن الملوك، فضحك رسول الله عليه السلام تعجباً منه وتصديقاً له، فأنزل الله هذه الآية، وهي قوله تعالى :
﴿بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنَ الشَّـاكِرِينَ * وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِه وَالارْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُه يَوْمَ الْقِيَـامَةِ وَالسَّمَـاوَاتُ مَطْوِيَّـاتُا بِيَمِينِه سُبْحَـانَه وَتَعَـالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ * وَنُفِخَ فِى الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِى﴾.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٦٨
﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ﴾.
القدر بمعنى : التعظيم، كما في "القاموس".
فالمعنى : ما عظموا الله حق تعظيمه حيث جعلوا له شريكاً بما لا يليق بشأنه العظيم.
ويقال : قدر الشيء قدره من التقدير كما في "المختار".
فالمعنى : ما قدروا عظمته تعالى في أنفسهم حق عظمته.
وقال الراغب في "المفردات" : ما عرفوا كنهه.
يقول الفقير : هذا ليس في محله، فإن الله تعالى، وإن كان لا يعرف حق المعرفة بحسب كنهه، ولكن تتعلق به تلك المعرفة بحسبنا.
فالمعنى ها هنا : ما عرفوا الله حق معرفته بحسبهم لا بحسب الله إذ لو عرفوه بحسبهم ما أضافوا إليه الشريك ونحوه فافهم.
وفي "التأويلات النجمية" : ما عرفوا الله حق معرفته وما وصفوه حق وصفه، وما عظموه حق تعظيمه، فمن اتصف بتمثيل أو جنح إلى تعطيل حاد عن ألسنة المثلى، وانحرف عن الطريقة الحسنى وصفوا الحق بالأعضاء، وتوهموا في نعته الأجزاء، فما قدروا الله حق قدره، انتهى.
﴿وَالارْضُ جَمِيعًا﴾ : حال لفظاً وتأكيد معنى، ولذا قال أهل التفسير : تأكيد الأرض بالجميع ؛ لأن المراد بها : الأرضون السبع، أو جميع أبعاضها البادية.
والغائرة ؛ أي : الظاهرة وغير الظاهرة من باطنها وظاهرها ووسطها.
قوله : والأرض مبتدأ خبره قوله :﴿قَبْضَتُه يَوْمَ الْقِيَـامَةِ﴾.
القبضة المرة من القبض، أطلقت بمعنى القبضة، وهي المقدار المقبوض بالكف تسمية بالمصدر أو بتقدير ذات قبضته.
وفي "المفردات" : القبض التناول بجمع الكف نحو قبض السيف، وغيره ويستعار القبض لتحصيل الشيء، وإن لم يكن فيه مراعاة الكف، كقولك : قبضت الدار من فلان ؛ أي : حزتها.
قال الله تعالى :﴿وَالارْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ﴾ ؛ أي : في حوزه حيث لا تمليك للعبد.
انتهى.
تقول للرجل : هذا في يدك، وفي قبضتك ؛ أي : في ملكك، وإن لم يقبض عليه بيده.
والمعنى : والأرض جميعاً مقبوضة يوم القيامة ؛ أي : في ملكه وتصرفه من غير منازع يتصرف فيها تصرف الملاك في ملكهم ؛ وأنها ؛ أي : جميع الأرضين، وإن عظمن، فما هن بالنسبة إلى قدرته تعالى إلا قبضة واحدة.
ففيه تنبيه على غاية عظمته، وكمال
١٣٤
قدرته وحقارة الأفعال بالنسبة إلى قدرته ودلالة على أن تخريب العالم أهون شيء عليه على طريقة التمثيل والتخييل من غير اعتبار القبضة حقيقة، ولا مجازاً على ما في "الإرشاد" ونحوه.
وعلى هذه الطريقة قوله تعالى :﴿وَالسَّمَـاوَاتُ﴾ مبتدأ ﴿مَطْوِيَّـاتُ﴾ خبره ﴿بِيَمِينِهِ﴾ متعلق بمطويات ؛ أي : مجموعات ومدرجات من طويت الشيء طياً ؛ أي : أدرجته إدراجاً، أو مهلكات من الطي بمعنى مضى العمر، يقال : طوى الله عمره.
وقوله : بيمينه ؛ أي : بقوته واقتداره، فإنه يعبر بها عن المبالغة في الاقتدار ؛ لأنها أقوى من الشمال في عادة الناس كما في "الأسئلة المقحمة".
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٦٨
قال ابن عباس رضي الله عنهما : ما السماوات السبع والأرضون السبع في يد الله إلا كخردلة في يد أحدكم.
قال بعضهم : الآية من المتشابهات، فلا مساغ لتأويلها وتفسيرها غير الإيمان بها كما قال تعالى :﴿هُوَ الَّذِى أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَـابَ مِنْهُ ءَايَـاتٌ مُّحْكَمَـاتٌ هُنَّ أُمُّ﴾ (آل عمران : ٧).
وقال أهل الحقيقة : المراد بهذه القبضة، هي : قبضة الشمال المضاف إليها القهر والغضب ولوازمهما وعالم العناصر، وما يتركب ويتولد منها.
ومن جملة ذلك صورة آدم العنصرية، وأما روحانيته، فمضافة إلى القبضة المسماة باليمين.
ودل على ما ذكر ذكر اليمين في مقابل الأرض، وصح عن النبي عليه السلام إطلاق الشمال على إحدى اليدين اللتين خلق الله بهما آدم عليه السلام، كما في "شرح الأربعين" حديثاً للشيخ الكبير قدس سره الخطير.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم :"يقبض الله السماوات بيمينه والأرضين بيده الأخرى ثم يهزهنّ ويقول أنا الملك أين ملوك الأرض".
كما في "كشف الأسرار".
وفيه إشعار بإطلاق الشمال على اليد الأخرى، فالشمال في حديثه عليه السلام، والقبضة في هذه الآية واحدة.