فإن قلت : كيف التوفيق بينه وبين قوله عليه السلام :"كلتا يدي ربي يمين مباركة".
وقول الشاعر :
له يمينان عدلاً لا شمال له
وفي يمينه آجال وأرزاق
قلت : كون كل من اليدين يميناً مباركة بالإضافة إليه تعالى، ومن حيث الآثار فيمين وشمال إذ لا تخلو الدنيا والآخرة من اللطف والقهر والجمال والجلال والبسط والقبض والروح والجسم والطبيعة والعنصر، ونحو ذلك.
وظهر مما ذكرنا كون السماوات خارجة عن حدّ الدنيا لإضافتها إلى اليمين، وإن كانت من عالم الكون والفساد، اللهم إلا أن يقال : العناصر مطلقاً مضافة إلى الأرض المقبوضة بالشمال، وأما ملكونها، وهو باطنها كباطن آدم، وباطن السماوات كالأرواح العلوية، فمضاف إلى السماوات المقبوضة باليمين، فالسماوات من حيث عناصرها داخلة في حدّ الدنيا.
﴿سُبْحَـانَه وَتَعَـالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ ما أبعد وما أعلى من هذه قدرته وعظمته عن إشراكهم ما يشركونه من الشركاء، فما على الأول مصدرية، وعلى الثاني موصولة.
سئل الجنيد قدس سره عن قوله :﴿وَالسَّمَـاوَاتُ مَطْوِيَّـاتُ﴾، فقال : متى كانت منشورة حتى صارت مطوية سبحانه نفى عن نفسه ما يقع في العقول من طيها، ونشرها إذ كل الكون عنده كالخردلة، أو كجناح بعوضة، أو أقل منها.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٦٨
قال الزروقي رحمه الله : إذا أردت استعمال حزب البحر للسلامة من عطبه فقدم عند ركوبه :﴿اللَّهِ مَجْاراـاهَا وَمُرْسَـاـاهَآا إِنَّ رَبِّى لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ (هود : ٤١) ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ﴾ إلى قوله :﴿عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ (الزمر : ٦٧).
إذ قد جاء في الحديث :"إنه أمان من الغرق"، ومن الله الخلاص.
يقول الفقير :
١٣٥
التخصيص : هو أن من عرف الله حق معرفته، قد لا يحتاج إلى ركوب السفينة بأن يمشي على الماء، كما وقع لكثير من أهل التصرف، ففيه تنبيه على العجز وتعريف للقصور.
وأيضاً : أن الأرض إذا كانت في قبضته، فالبحر الذي فوقها متصلاً بها يكون أيضاً في قبضته فينبغي أن يخاف من سطوته في كل مكان، ويشتغل بذكره في كل آن بخلوص الجنان وصدق الإيقان.
يقال : إن الشرك جلي وخفي، فالجلي من العوام الكفر والخفي منهم التوحيد باللسان مع اشتغال القلب بغير الله تعالى، وهو شرك جلي من الخواص، والخفي منهم الالتفات إلى الدنيا وأسبابها، وهو جلي من أخص الخواص والخفي منهم الالتفات إلى الآخرة.
يقال : إن السبب لانشقاق زكريا عليه السلام في الشجرة كان التفاته إلى الشجرة حيث قال : اكتميني أيتها الشجرة كما أن يوسف عليه السلام قال لساقي الملك : اذكرني عند ربك، فلبث في السجن بضع سنين، فاقطع نظرك عما سوى الله، وانظر إلى حال الخليل عليه السلام ؛ فإنه لما ألقي في النار أتاه جبرائيل.
وقال : ألك حاجة يا إبراهيم؟ فقال : أما إليك، فلا فجعل الله له النار برداً وسلاماً، وكان قطباً وإماماً :
نكر تاقضا ازكجا سير كرد
كه كورى بود تكيه برغير كرد
قال عبد الواحد بن زيد لأبي عاصم البصري رحمه الله : كيف صنعت حين طلبك الحجاج.
قال : كنت في غرفتي، فدقوا عليَّ الباب ودخلوا، فدفعت بي دفعة، فإذا أنا على أبي قبيس بمكة، فقال عبد الواحد : من أين كنت تأكل.
قال : كانت تأتي إليّ عجوز وقت إفطاري بالرغيفين الذين كنت آكلهما بالبصرة.
قال عبد الواحد : تلك الدنيا أمرها الله أن تخدم أبا عاصم هكذا حال من توكل على الله وانقطع إليه عما سواه، فالله لا يخيب عبداً لا يرجو إلا إياه.
﴿وَنُفِخَ فِى الصُّورِ﴾.
المراد : النفخة الأولى التي هي للإماتة بقرينة النفخة الآتية التي هي للبعث والنفخ نفخ الريح في الشيء.
وبالفارسية :(دميدن).
يقال : نفخ بفمه، أخرج منه الريح.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٦٨
والنفخ في القرآن على خمسة أوجه :
الأول : نفخ جبريل عليه السلام في جيب مريم عليها السلام كما قال تعالى :﴿فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا﴾ (الأنبياء : ٩١) ؛ أي : نفخ جبرائيل في الجيب بأمرنا فسبحان من أحبل رحم امرأة وأوجد فيها ولداً بنفخ جبرائيل.
والثاني : نفخ عيسى عليه السلام في الطين كما قال تعالى :﴿فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرَا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ (آل عمران : ٤٩).
وهو الخفاش، فسبحان من حول الطين طيراً بنفخ عيسى.
والثالث : نفخ الله تعالى في طين آدم عليه السلام كما قال تعالى :﴿وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى﴾ ؛ أي : أمرت الروح بالدخول فيه، والتعلق به فسبحان من أنطق لحماً وأبصر شحماً، واسمع عظماً وأحيا جسداً بروح منه.
والرابع : نفخ ذي القرنين الحديد في النار كما قال تعالى حكاية عنه.
﴿قَالَ انفُخُوا﴾ (الكهف : ٩٦) الآية، فسبحان من حول قطعة حديد ناراً بنفخ ذي القرنين.