والخامس : نفخ إسرافيل عليه السلام في الصور، كما قال تعالى :﴿وَنُفِخَ فِى الصُّورِ﴾، فسبحان من أخرج الأرواح من الأبدان بنفخ واحد كما يطفأ السراج بنفخ واحد، وتوقد النار بنفخ واحد وسبحان من رد الأرواح إلى الأبدان بنفخ واحد.
وهذا كله دليل على قدرته التامة العامة.
والصور : قرن من نور ألقمه الله إسرافيل، وهو أقرب الخلق إلى الله تعالى، وله جناج بالمشرق وجناح بالمغرب، والعرش على كاهله، وإن قدميه قد خرجنا من الأرض السفلى حتى بعدتا عنها مسيرة مائة عام على ما رواه وهب وعظم دائرة القرن مثل ما بين السماء والأرض.
وفي "الدرة الفاخرة" للإمام الغزالي
١٣٦
رحمه الله : الصور قرن من نور له أربع عشرة دائرة.
الدائرة الواحدة كاستدارة السماء والأرض فيه ثقب بعدد أرواح البرية وباقي ما يتعلق بالنفخ.
والصور قد سبق في سورة الكهف والنمل فارجع.
﴿فَصَعِقَ مَن فِى السَّمَـاوَاتِ وَمَن فِى الأرْضِ﴾.
يقال : صعق الرجل إذا أصابه فزع، فأغمي عليه وربما مات منه، ثم استعمل في الموت كثيراً كما في "شرح المشارق" لابن الملك.
قال في "المختار" صعق الرجل بالكسر صعقة غشي عليه.
وقوله تعالى :﴿فَصَعِقَ مَن﴾ إلخ.
أي : مات.
انتهى.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٦٨
فالمعنى : خروا أمواتاً من الفزع وشدة الصوت.
﴿إِلا مَن شَآءَ اللَّهُ﴾ جبرائيل وإسرافيل وميكائيل وملك الموت عليهم السلام، فإنهم يموتون من بعد.
قال السدي : وضم بعضهم إليهم ثمانية من حملة العرش، فيكون المجموع اثني عشر ملكاً وآخرهم موتاً ملك الموت.
وروى النقاش : إنه جبرائيل كما جاء في الخبر أن الله تعالى يقول حينئذٍ : يا ملك الموت خذ نفس إسرافيل.
ثم يقول : من بقي؟، فيقول : بقي جبرائيل وميكائيل وملك الموت.
فيقول : خد نفس ميكائيل حتى يبقى ملك الموت وجبرائيل، فيقول : تعالى مت يا ملك الموت، فيموت.
ثم يقول : يا جبرائيل من بقي؟ فيقول : تباركت وتعاليت يا ذا الجلال والإكرام وجهك الدائم الباقي، وجبرائيل الميت الفاني، فيقول : يا جبرائيل لابد من موتك، فيقع ساجداً يخفق بجناحيه، فيموت، فلا يبقى في الملك حي من إنس وجن وملك غيرهم، إلا الله الواحد القهار.
وقال بعض المفسرين : المستثنى الحور والولدان وخزنة الجنة والنار وما فيهما ؛ لأنهما وما فيهما خلقاً للبقاء والموت لقهر المكلفين ونقلهم من دار إلى دار، ولا تكليف على أهل الجنة، فتركوا على حالهم بلا موت.
وهذا الخطاب بالصعق متعلق بعالم الدنيا والجنة والنار عالمان بانفرادهما خلقاً للبقاء فهما بمعزل عما خلق للفناء، فلم يدخل أهلهما في الآية، فتكون آية الاستثناء مفسرة لقوله تعالى :﴿كُلُّ شَىْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ﴾ (القصص : ٨٨) : و﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَآاـاِقَةُ الْمَوْتِ﴾ (آل عمران : ١٨٥)، وغيرهما من الآيات فلا تناقض.
يقول الفقير : يرد عليه أنه كيف يكون هذا الخطاب بالصعق متعلقاً بعالم الدنيا، وقد قال الله تعالى :﴿مَن فِى السَّمَـاوَاتِ﴾، وهي أي : السماوات خارجة عن حدّ الدنيا، ولئم سلم بناء على أن السماوات السبع كالأرض من عالم الكون والفساد، فيبقى الفلك الثامن الذي هو الكرسي والتاسع الذي هو العرش خارجين عن حدّ الآية، فيلزم أن لا يفنى أهلهما عموماً وخصوصاً من الملائكة الذين لا يحصي عددهم إلا الله على أنهم من أهل التكليف أيضاً.
قال الإمام النسفي في "بحر الكلام" : قال أهل الحق ؛ أي : أهل السنة والجماعة سبعة لا تفنى العرش والكرسي واللوح والقلم والجنة والنار وأهلهما من ملائكة الرحمة والعذاب والأرواح ؛ أي : بدلالة هذه الآية.
وقال شيخ العلماء الحسن البصري قدس سره : المراد بالمستثنى هو الله تعالى وحده، ويؤيده ما قاله الغزالي رحمه الله : حدثني من لا أشك في علمه أن الاستثناء واقع عليه سبحانه خاصة.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٦٨
يقول الفقير : فيه بعد من حيث الظاهر ؛ لأنه يلزم أن يشاء الله نفسه، فيكون شائياً ومشيئاً، وقد أخرجوه في نحو قوله تعالى :﴿وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ (البقرة : ٢٨٤) : و﴿اللَّهُ خَـالِقُ كُلِّ شَىْءٍ﴾ (الرعد : ١٦)، وغيرهما.
والله ليس من أهل السماوات والأرض، وإن كان إلهاً، فهي كما قال :﴿وَهُوَ الَّذِى فِى السَّمَآءِ إِلَـاهٌ وَفِى الارْضِ إِلَـاهٌ﴾ (الزخرف : ٨٤).
وقال بعض المحققين : الصعق أعم من الموت، فلمن لم يمت الموت، ولمن مات الغشية، فإذا نفخ الثانية، فمن مات حي ومن غشي عليه أفاق، وهو القول المعوّل عليه عند ذوي التحقيق.
يقول الفقير :
١٣٧
فيدخل إدريس عليه السلام، فإنه مات ثم أحيي وأدخل الجنة، فتعمه الغشية دون الموت إلا أن يكون ممن شاء الله، وأما موسى عليه السلام، فقد جزي بصعقته وغشيته في الطور، فالموت عام لكل أحد إذ لو بقي أحد لأجاب الله تعالى، حيث يقول : لمن الملك اليوم، فقال : الواحد القهار.


الصفحة التالية
Icon