قال في "أسئلة الحكم"، وأما قوله تعالى :﴿كُلُّ شَىْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ﴾ (القصص : ٨٨)، فمعناه عند المحققين قابل للهلاك، فكل محدث قابل لذلك، بل هالك دائم وعدم محض بالنسبة إلى وجه نفسه إذ لكل شيء وجهان : وجه إلى نفسه، ووجه إلى ربه.
فالوجه الأول هالك، وعدم والثاني عين ثابت في علمه قائم بربه، وإن كان له ظل ظاهر، فكل محدث قابل للهلاك، والعدم، وإن لم يهلك وينعدم بخلاف القديم الأزلي.
ويؤيد ذلك المعنى أن العرش لم يرو فيه خبر بأنه يهلك، فلتكن الجنة مثله.
يقول الفقير : أما ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه سأل جبرائيل عن هذه الآية من الذين لم يشأ الله أن يصعقهم.
قال : هم الشهداء المتقلدون أسيافهم حول العرش"، كما في "كشف الأسرار"، وكذا ما قال جعفر الصادق رضي الله عنه أهل الاستثناء محمد صلى الله تعالى عليه وسلم وأهل بيته وأهل المعرفة.
وما قال بعضهم : هم أهل التمكين والاستقامة.
كل ذلك وما شاكله، فمبني على تفسير الصعق بالغشي إذ الشهداء ونحوهم من الصديقين، وإن كانوا أحياء عند ربهم لكنهم لا يذوقون الموت مرة أخرى، وإلا لتحققوا بالعدم الأصلي، وهو مخالف لحكمة الله تعالى، وإنما شأنهم الفزع والغشيان، فيحفظهم الله تعالى عن ذلك، فالأرواح والأحياء مشتركون في ذلك إلا من شاء الله.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٦٨
حكي أن واحداً رؤي في المنام ذا شيب، وكان قد مات وهو شاب، فقيل له في ذلك، فقال : لما قبر المرسي القائل بخلق القرآن في قبره في هذه المقبرة هجمت عليه جهنم بغيظ وزفير، فشاب شعري من ذلك الفزع والهول، وله نظائر كثيرة، ودخل في الأرواح من يقال لهم : الأرواح العالية المهيمة، فإنهم لا يموتون لكونهم أرواحاً، ولا يغشى عليهم، إذ ليس لهم خبر عما سوى الله تعالى، بل هم المستغرقون في بحر الشهود، فعلى هذا يكون المراد بالنفخة في الآية نفخة غير نفخة الإماتة، وسيأتي البيان في النفخات.
فإن قلت : فما الفرق بين الصعق الذي في هذه الآية، وبين الفزع الذي في آية النمل، وهي قوله تعالى :﴿وَيَوْمَ يُنفَخُ فِى الصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِى السَّمَـاوَاتِ وَمَن فِى الأرْضِ﴾ (النمل : ٨٧).
قلت : لا شك أن الصعق بمعنى الموت غير الفزع، وكذا بمعنى الغشي إذ ليس كل من له فزع مغشياً عليه، هذا ما تيسر لي في هذا المقام، وحقيقة العلم عند الله الملك العلام.
﴿ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى﴾ نفخة أخرى هي النفخة الثانية على الوجه الأول وأخرى.
يحتمل النصب على أن يكون الظرف قائماً مقام الفاعل، وأخرى صفة لمصدر منصوب على المفعول المطلق والرفع على أن يكون المصدر المقدر قائماً مقام الفاعل.
﴿فَإِذَا هُمْ﴾ ؛ أي : جميع الخلائق.
﴿قِيَامٌ﴾ جمع : قائم ؛ أي : قائمون من قبورهم على أرجلهم أو متوقفون، فالقيام بمعنى الوقوف والجمود في مكانهم لتحيرهم.
﴿يَنظُرُونَ﴾ يقلبون أبصارهم في الجوانب كالمبهوتين، أو ينتظرون ماذا يفعل بهم، ويقال : ينظرون إلى السماء كيف غيرت، وإلى الأرض كيف بدلت، وإلى الداعي كيف يدعوهم إلى الحساب، وإلى الآباء والأمهات كيف ذهبت شفقتهم عنهم، واشتغلوا بأنفسهم، وإلى خصمائهم ماذا يفعلون بهم.
وفي الحديث :"أنا أول من ينشق عنه القبر"، وأول من يحيا من
١٣٨
الملائكة إسرافيل لينفخ في الصور".
"وأول من يحيا من الدواب براق النبي عليه السلام".
"وأول من يستظل في ظلّ العرش رجل أنظر معسراً ومحا عنه".
"وأول من يرد الحوض فقراء الأمة والمتحابون في الله"، "وأول من يكسى يوم القيامة إبراهيم الخليل عليه السلام ؛ لأنه ألقي في النار عرياناً".
"وأول من يكسى حلة من النار إبليس"، "وأول من يحاسب جبرائيل ؛ لأنه كان أمين الله إلى رسله"، "وأول ما يقضى بين النار في الدماء".
"وأول ما يحاسب به الرجل صلاته"، "وأول ما تسأل المرأة عن صلاتها، ثم بعلها"، "وأول ما يسأل العبد يوم القيامة عن النعيم ؛ بأن يقال له : ألم أصحح جسمك وأروك من الماء البارد".
"وأول ما يوضع في الميزان الخلق الحسن"، "وأول ما يوضع في الميزان العبد نفقته على أهله"، "وأول ما يتكلم من الآدمي، فخذه وكفه".
"وأول خصمين جاران"، "وأول من يشفع يوم القيامة الأنبياء"، ثم العلماء، ثم الشهداء، "وأول من يدخل الجنة من هذه الأمة أبو بكر رضي الله عنه"، "وأول من يسلم عليه الحق، ويصافحه عمر رضي الله عنه"، "وأول من يدخل من الأغنياء عبد الرحمن بن عوف من العشرة المبشرة".
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٦٨
قال في "المدارك" : دلت الآية على أن النفخة اثنتان : الأولى للموت، والثانية : للبعث.
والجمهور على ثلاث :
الأولى : للفزع كما قال :﴿يُنفَخُ فِى الصُّورِ فَفَزِعَ﴾ (النمل : ٨٧).
والثانية : للموت.
والثالثة : للإعادة.
انتهى.
فإن كانت النفخة اثنتين يكون معنى صعق خروا أمواتاً، وإن كانت ثلاثاً، يكون معناه مغشياً عليهم، فتكون هذه النفخة ؛ أي : الثالثة بعد نفخة الإحياء يوم القيامة كما ذهب إليه البعض.