وقال سعد المفتي : دل ظاهر الأحاديث على أن النفخات أربع المذكورتان في سورة يس للإماتة، ثم الإحياء.
ونفخة للإرعاب والإرهاب، فيغشى عليهم، ثم للإفاقة والإيقاظ، والذي يفهم من خريدة العجائب : أن نفخة الفزع هي أولى النفخات، فإنه إذا وقعت أشراط الساعة، ومضت أمر الله صاحب الصور أن ينفخ نفخة الفزع، ويديمها ويطولها، فلا يبرح كذا عاماً يزداد الصوت كل يوم شدة، فيفزع الخلائق وينحازون إلى أمهات الأمصار، وتعطل الرعاة السوائم، وتأتي الوحوش والسباع، وهي مذعورة من هول الصيحة، فتختلط بالناس، ويؤول الأمر إلى تغير الأرض والسماء عما هما عليه، وبين نفخة الفزع.
والنفخة الثانية : أربعون سنة، ثم تقع نفخة الثانية، والثالثة : وبينهما أربعون سنة، أو شهراً، أو يوماً، أو ساعة.
قال الإمام الغزالي رحمه الله : اختلف الناس في أمد المدة الكائنة بين النفختين، فاستقر جمهورهم على أنها أربعون سنة.
وحدثني من لا أشك في علمه : أن أمد ذلك لا يعلمه إلا الله تعالى ؛ لأنه من أسرار الربوبية، فإذا أراد الله إحياء الخلق يفتح خزانة من خزائن العرش فيها بحر الحياة، فتمطر به الأرض، فإذا هو كمنيّ الرجال بعد أن كانت عطشى فتحيا وتهتز، ولا يزال المطر عليها حتى يعمها، ويكون الماء فوقها أربعين ذراعاً، فإذا الأجسام تنبت من عجب الذنب، وهو أول ما يخلق من الإنسان بدىء منه.
ومنه يعود وهو عظم على قدر الحمصة، وليس له مخ، فإذا نبت كما نبت البقل تشتبك بعضها في بعض، فإذا رأس هذا على منكب هذا، ويد هذا على جنب هذا، وفخذ هذا على حجر هذا لكثرة البشر، والصبي صبي، والكهل كهل، والشيخ شيخ، والشاب شاب، ثم تهب ريح من تحت العرش فيها نار، فتنسف ذلك عن الأرض، وتبقى الأرض بارزة مستوية ؛ كأنها صحيفة واحدة، ثم يحيي الله إسرافيل، فينفخ
١٣٩
في الصور من صخرة بيت المقدس، فتخرج الأرواح لها دويّ كدويّ النحل، فتملأ الخافقين، ثم تذهب كل نفس إلى جثتها بإعلام الله تعالى حتى الوحش والطير، وكل ذي روح، فإذا الكل قيام ينظرون، ثم يفعل الله بهم ما يشاء.
قال الشيخ سعدي قدس سره :
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٦٨
جودرخا كدان لحد خفت مرد
قيامت بيفشاند از موى كرد
سرازجيب غفلت برآور كنون
كه فردا نماند بحسرت نكون
بران ازدوسر جشمه ديده جوى
ور آلايشي دارى ازخود بشوى
﴿وَنُفِخَ فِى الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِى السَّمَـاوَاتِ وَمَن فِى الارْضِ إِلا مَن شَآءَ اللَّه ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ * وَأَشْرَقَتِ الارْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَـابُ وَجِا ىاءَ بِالنَّبِيِّـانَ وَالشُّهَدَآءِ وَقُضِىَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ * وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ﴾.
﴿وَأَشْرَقَتِ الارْضُ﴾ : صارت عرصات القيامة مشرقة ومضيئة.
وذلك حين ينزل الله على كرسيه لفصل القضاء بين عباده.
﴿بِنُورِ رَبِّهَا﴾ : النور : الضوء المنتشر المعين على الإبصار ؛ أي : بما أقام فيها من العدل.
استعير له النور ؛ لأنه يزين البقاع، ويظهر الحقوق كما يسمى الظلم ظلمة.
وفي الحديث :"الظلم ظلمات يوم القيامة" يعني : شدائده يعني : الظلم سبب لشدائد صاحبه، أو الظلم سبب لبقاء الظالم في الظلمة حقيقة، فلا يهتدي إلى السبيل حين يسعى نور المؤمنين بين أيديهم، ولكون المراد بالنور العدل أضيف الاسم الجليل إلى ضمير الأرض، فإن تلك الإضافة إنما تحسن إذا أريد به تزين الأرض بما ينشر فيها من الحكم والعدل، أو المعنى : أشرقت بنور خلقه الله في الأرض يوم القيامة بلا توسط أجسام مضيئة كما في الدنيا، يعني : يشرق بذلك النور وجه الأرض المبدلة بلا شمس ولا قمر، ولا غيرهما من الأجرام المنيرة، ولذلك ؛ أي : ولكون المعنى ذلك.
أضيف ؛ أي : النور إلى الاسم الجليل.
وقال سهل : قلوب المؤمنين يوم القيامة تشرق بتوحيد سيدهم والاقتداء بسنة نبيهم.
وفي "التأويلات النجمية" :﴿وَأَشْرَقَتِ الارْضُ﴾ : أرض الوجود ﴿بِنُورِ رَبِّهَا﴾ إذا تجلى لها.
وقال بعضهم : هذا من المكتوم الذي لا يفسر، كما في "تفسير أبي الليث".
﴿وَوُضِعَ الْكِتَـابُ﴾ ؛ أي : الحساب والجزاء من وضع المحاسب كتاب المحاسبة بين يديه، أو صحائف الأعمال في أيدي العمال في الإيمان والشمائل، واكتفى باسم الجنس عن الجمع إذ لكل أحد كتاب على حدة.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٦٨
والكتاب في الأصل : اسم للصحيفة مع المكتوب فيه.
وقيل : وضع الكتاب في الأرض بعدما كان في السماء.
يقول الفقير : هذا على إطلاقه غير صحيح ؛ لأن كتاب الأبرار في عليين، وكتاب الفجار في سجين، فالذي في السماء يوضع في الأرض حتى اللوح المحفوظ، وأما ما في الأرض فعلى حاله.
﴿وَجِا ىاءَ بِالنَّبِيِّـانَ﴾ : الباء للتعدية.
﴿وَالشُّهَدَآءِ﴾ للأمم وعليهم من الملائكة والمؤمنين.