﴿وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا﴾ : استغفارهم، شفاعتهم وحملهم على التوبة وإلهامهم ما يوجب المغفرة، وفيه إشعار بأنهم يطلعون على ذنوب بني آدم وتنبيه على أن المشاركة في الإيمان توجب النصح والشفقة، وإن تخالفت الأجناس ؛ لأنها أقوى المناسبات وأتمها كما قال تعالى : إنما ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ (الحجرات : ١٠) ولذلك قال الفقهاء : قتل الأعوان والسعاة والظلمة في الفترة مباح، وقاتلهم مثاب وإن كانوا مسلمين ؛ لأن من شرط الإسلام الشفقة على خلق الله، والفرح بفرحهم والحزن بحزنهم، وهم على عكس ذلك، وقلما يندفع شرهم بالحبس.
ونحوه قال الإمام : قد ثبت أن كمال السعادة مربوط بأمرين : التعظيم لأمر الله، والشفقة على خلق الله.
ويجب أن يكون الأول مقدماً على الثاني، فقوله : يسبحون بحمد ربهم، ويؤمنون به مشعر بالتعظيم لأمر الله ويستغفرون للذين آمنوا بالشفقة على خلق الله.
انتهى.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ١٤٨
قال مجاهد : يسألون ربهم مغفرة ذنوب المؤمنين من حين علموا أمر هاروت وماروت، أو لقولهم :﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَآءَ﴾ (البقرة : ٣٠).
قال الراغب : المغفرة من الله أن يصون العبد عن أن يمسه العذاب، والاستغفار طلب ذلك بالمقال والفعال، فإن الاستغفار بالمقال فقط فعل الكاذبين، ثم لا يلزم من الآية أفضلية الملائكة على البشر حيث اشتغلوا بالاستغفار للمؤمنين من غير أن يتقدم الاستغفار لأنفسهم لاستغنائهم وذلك لأن هذا بالنسبة إلى عوام المؤمنين، وأما خواصهم، وهم الرسل فهم أفضل منهم على الإطلاق، وإنما يصلون عليهم بدل الاستغفار لهم تعظيماً لشأنهم، ونعم ما قال أبو الليث رحمه الله في الآية بيان فضل المؤمنين ؛ لأن الملائكة مشتغلون بالدعاء لهم.
وفي "التأويلات النجمية" : يشير إلى أن الملائكة كما أمروا بالتسبيح والتحميد والتمجيدتعالى، فكذلك أمروا بالاستغفار والدعاء لمذنبي المؤمنين ؛ لأن الاستغفار للمذنب، ويجتهدون في الدعاء لهم، فيدعون لهم بالنجاة، ثم برفع الدرجات كما قال :﴿رَبَّنَآ﴾ على إرادة القول ؛ أي : يقولون : ربنا على أنه بيان لاستغفارهم أو حال ؛ أي : قائلين :﴿وَسِعْتَ كُلَّ شَىْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا﴾ نصب على التمييز.
والأصل : وسعت رحمتك وعلمك لا ذاتك لامتناع المكان في حقه، فأزيل عن أصله للإغراق في وصفه بالرحمة والعلم، كأن ذاته رحمة وعلم واسعان كل شيء وتقديم الرحمة، وإن كان العلم أشمل وأقدم تعلقاً من الرحمة ؛ لأنها المقصودة بالذات ها هنا.
وفي "عين المعاني" : ملأت كل شيء نعمة وعلماً به.
يقول الفقير : دخل في عموم الآية الشيطان ونحوه ؛ لأن كل موجود فله رحمة دنيوية البتة وأقلها الوجود وللشيطان إنظار إلى يوم الدين، ويكون من الرحمة الدنيوية إلى غير ذلك.
﴿فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ﴾ : الفاء : لترتيب الدعاء على ما قبلها من سعة الرحمة والعلم، فما بعد الفاء
١٥٧
مسبب عن كل واحد من الرحمة والعلم، إذ المعنى، فاغفر للذين علمت منهم التوبة من الكفر والمعاصي واتباع سبيل الإيمان والطاعة.
وفيه إشارة إلى أن الملائكة لا يستغفرون إلا لمن تاب ورجع عن اتباع الهوى، واتبع بصدق الطلب وصفاء النية سبيل الحق تعالى.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ١٤٨
وفي "الأسئلة المقحمة" قوله : فاغفر إلخ.
صيغة دالة على أن الشفاعة للتائبين.
والجواب : أن الشفاعة للجميع، ولكن لما كانت حاجة التائب إليها أظهر قرنوه بالذكر، ثم لا يجب على الله قبول توبة التائب، عندنا انتهى والأظهر أن التخصيص للحث على التوبة والاتباع، وهو اللائح بالبال، ومن أعجب ما قيل في هذا المقام قول البقلي في "تأويلاته" : عجبت من رحمة الملائكة كيف تركوا المصرين على الذنوب عن استغفارهم هذه قطعة زهد وقعت في مسالكهم أين هم من قول سيد البشر عليه السلام حين آذاه قومه، اللهم اهد قومي ؛ فإنهم لا يعلمون عمموا الأشياء بالرحمة، ثم خصوا منها التائبين، يا ليت لو بقوا على القول الأول، وسألوا الغفران لمجموع التائبين والعاصين.
انتهى.
يقول الفقير : العاصي إما مؤمن أو كافر، والثاني : لا تتعلق به المغفرة ؛ لأنها خاصة بالمؤمنين مطلقاً، فلما علم الملائكة أن الله لا يغفر أن يشرك به خصوها بالتائبين ليخرج المشركون.
﴿وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ﴾ : أمر من وقى يقي وقاية، وهي حفظ الشيء مما يؤذيه ويضره ؛ أي : واحفظهم من عذاب جهنم، وهو تصريح بعد إشعار للتأكيد، وذلك لأن معنى الغفران إسقاط العذاب، وفيه إشارة إلى أنه بمجرد التوبة لا تحصل النجاة، فلا بد من الثبات عليها وتخليص العمل من شوب الرياء والسمعة وتصفية القلب عن الأهواء والبدع.