يقول الفقير : حقيقة الآية عند السادات الصوفية قدس الله أسرارهم أنه تعالى رفيع درجات أسمائه وصفاته، وطبقات ظهوراته في تنزلاته واسترسالاته، فإنه تعالى خلق العقل الأول، وهو أول ما وجد من الكائنات، وهو آدم الحقيقي الأول، والروح الكلي المحمدي، والعلم الأعلى، وهو أول موجود تحقق بالنعم الإلهية وآخر الموجودات تحققاً بهذه النعم هو عيسى عليه السلام ؛ لأنه لا خليفةبعده إلى يوم القيامة، بل لا يبقى بعد انتقاله، وانتقال من معه مؤمن على وجه الأرض فضلاً عن ولي كامل.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ١٤٨
وفي الحديث :"لا تقوم الساعة وفي الأرض من يقول : الله، الله" ؛ أي : الملازم الذكر لا الذاكر في الجملة، فلا بدّ للمصلي من أن يستحضر عند قوله : صراط الذين أنعمت عليهم جميع من أنعم الله عليه من العلم الأعلى إلى عيسى، ثم خلق الله النفس الكلية التي منها وجدت النفوس الناطقة كلها، وهي حواء الحقيقية الأولى، ثم أوجد الطبيعة الكلية التي في الأجسام الجزئية وبواسطتها ظهر الفعل، والانفعال في الأشياء، ثم الهباء، ثم الشكل الكلي، وهو الهيولى الجسمية، ثم جسم الكلي، ثم الفلك الأطلس الذي هو العرش الكريم، ثم الكرسي على ما ذكره داود القيصري، وأما حضرة الشيخ صدر الدين القنوي قدس سره، فلم يجعل الفلك الأطلس هو العرش بعينه، فالترتيب عنده العرش ثم الكرسي، ثم فلك الأطلس سمي به لخلوه عن الكواكب، كخلو الأطلس عن النقش، ثم المنازل، ثم سماء كيوان، ثم سماء المشتري، ثم سماء المريخ، ثم سماء الشمس، ثم سماء الزهرة، ثم سماء عطارد، ثم سماء القمر، ثم عنصر النار، ثم عنصر الهواء، ثم عنصر الماء، ثم عنصر التراب، ثم المعدن، ثم النبات، ثم الحيوان، ثم الملك، ثم الجن، ثم الإنسان الذي هو مظهر الاسم الجامع، ثم ظهر في مرتبته التي هي مظهر الاسم الرفيع، فتم الملك والملكوت.
وهذه الحقائق كلها درجات إلهية ومراتب رحمانية دلعليها قوله تعالى : رفيع الدرجات.
﴿ذُو الْعَرْشِ﴾ : خبر آخر لقوله : هو ؛ أي : هو تعالى مالك العرش العظيم المحيط بأكناف العالم العلوي والسفلي.
وله أربعمائة ركن من الركن إلى الركن أربعمائة ألف سنة خلقه فوق السماوات السبع وفوق الكرسي إظهاراً لعظمته وقدرته لا مكاناً لذاته، فإنه الآن على ما كان عليه، وإنما ذكره على حدّ العقول ؛ لأن المعقول لا تصل إلا إلى مثله، وإلا فهو أقل من خردلة في جنب جلاله تعالى وعظمته أيضاً خلقه ليكون مضافاً لملائكته، وليكون قبلة الدعاء، ومحل نزول البركات ؛ لأنه مظهر لاستواء الرحمة الكلية، ولذا ترفع الأيدي إلى السماء وقت الدعاء ؛ لأنه بمنزلة أن يشير سائل إلى الخزانة السلطانية، ثم يطلب من السلطان أن يفيض عليه سجال العطاء من هذه الخزانة.
قال العلماء : يكره النظر إلى السماء وفي الصلاة، وأما في غيرها فكرهه بعض، ولم يكرهه الأكثرون ؛ لأن السماء قبلة الدعاء، وأيضاً خلقه ليكون موضع كتاب الأبرار.
كما قال تعالى :﴿إِنَّ كِتَـابَ الابْرَارِ لَفِى عِلِّيِّينَ﴾ (المطففين : ١٨)، وليكون مرآة للملائكة، فإنهم يرون الآدميين من تلك المرآة، ويطلعون على
١٦٥
أحوالهم، كي يشهدوا عليهم يوم القيامة، وليكون ظلة لأهل المحشر من الأبرار والمقربين يوم تبدل السماوات والأرض، وليكون محلاً لإظهار شرف محمد صلىتعالى عليه وسلم، كما قال تعالى :﴿عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا﴾ (الإسراء : ٧٩)، وهو مقام تحت العرش فيه يظهر أثر الشفاعة العظمى للمؤمنين.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ١٤٨
ويقال : إن الله تعالى رفع من كل شيء شيئاً، المسك من الطيب، والعرش من الأماكن، والياقوت من الجواهر، والشمس من الأنوار، والقرآن من الكتب، والعسل من الحلوى، والحرير من اللباس، والزيتون من الأشجار، والأسد من السباع، وشهر رمضان من الشهور، والجمعة من الأيام، وليلة القدر من الليالي، والتوحيد من المقال، والصلاة من الفعال، ومحمداً عليه السلام من الرسل، وأمته من الأمم.
هذا إذا كان العرش بمعنى الجسم المحيط، ويقال : العرش الملك، والبسطة، والعز.
يقال : فلان ثل عرشه ؛ أي : زالت قوته ومكنته.


الصفحة التالية
Icon