وروي أن عمر رضي الله عنه : رؤي في المنام، فقيل له : ما فعل الله بك قال : لولا أن تداركني الله لثل عرشي، فيكون معنى ذو العرش على ما في "التأويلات النجمية" : ذو الملك العظيم ؛ لأنه تعالى خلقه أرفع الموجودات وأعظمها جثة إظهاراً للعظمة، وأيضاً : ذو عرش القلوب، فإنها العرش الحقيقي ؛ لأن الله تعالى استوى على العرش بصفة الرحمانية، ولا شعور للعرش به، واستوى على قلوب أوليائه بجميع الصفات، وهم العلماء بالله مستغرقين في بحر معرفته، فإذا كان العرش الصوري، والمعنوي في قبضة قدرته، وهو مستوللٍ عليه، ومتصرف فيه لا مالك ولا متصرف له غيره، لا يصح أن يشرك به مطلقاً، بل يجب أن يعبد ظاهراً وباطناً حقاً وصدقاً.
﴿يُلْقِى الرُّوحَ﴾ : بيان لإنزال الرزق المعنوي الروحاني من الجانب العلوي بعد إنزال بيان الرزق الجسماني منه، ولذا وصف نفسه بكونه رفيع الدرجات وذا العرش ؛ لأن آثار الرحمة مطلقاً، إنما تظهر من جانب السماء خصوصاً العرش مبدأ جميع الحركات.
والمعنى : ينزل الوحي الجاري من القلوب منزلة الروح من الأجساد، فكما أن الروح سبب لحياة الأحسام، كذلك الوحي سبب لحياة القلوب، فإن حياة القلوب إنما هي بالعارف الإلهية الحاصلة بالوحي، فاستعير الروح للوحي ؛ لأنه يحيا به القلب بخروجه من الجهل والحيرة إلى المعرفة والطمأنينة، وسمي جبرائيل روحاً ؛ لأنه كان يأتي الأنبياء بما فيه حياة القلوب وسمي عيسى روح الله ؛ لأنه كان من نفخ جبرائيل وأضيف إلى الله تعظيماً.
واعلم أن ما سوى الله تعالى إما جسماني، وإما روحاني.
والقسمان مسخران تحت تسخيره تعالى.
أما الجسماني، فأعظمه العرش، فقوله : ذو العرش يدل على استيلائه على جميع عالم الأجسام كله، وقوله : يلقي الروح يدل على أن الروحانيات أيضاً مسخرات لأمره، فإن جبرائيل إذا كان مسخراً له في تبليغ الوحي إلى الأنبياء، وهو من أفاضل الملائكة، فما طنك بغيره.
وأما الوحي نفسه، فهو من الأمور المعنوية، وإنما يتصور بصورة اللفظ عند الإلقاء ﴿مِنْ أَمْرِهِ﴾ : بيان للروح الذي أريد به الوحي، فإنه أمر بالوحي وبعث للمكلف عليه، فيما يأتيه ويذره، فليس المراد بالأمر هنا ما هو بمعنى الشأن، أو حال كونه ناشئاً، ومبتدأ من أمره تعالى :﴿عَلَى مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ﴾.
وهو الذي اصطفاه لرسالته وتبليغ الأحكام إليهم.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ١٤٨
وقال الضحاك : الروح جبرائيل ؛ أي : يرسله إلى من يشاء من أجل أمره يخاطب بهذا
١٦٦
من كره نبوة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم.
وفي "التأويلات النجمية" : روح الدراية للمؤمنين، وروح الولاية للعارفين، وروح النبوة للنبيين.
وفي الآية دليل على أن النبوة عطائية لا كسبية.
وكذا الولاية في الحقيقة إذ لا ينظر إلى الأسباب الخارجة بل إلى الاختصاص الإلهي.
﴿لِيُنذِرَ﴾ غاية للإلقاء ؛ أي : لينذر الله تعالى أو الملقى عليه، أو الروح.
والإنذار : دعوة إبلاغ مع تخويف ﴿يَوْمَ التَّلاقِ﴾.
إما ظرف للمفعول الثاني ؛ أي : لينذر الناس العذاب يوم التلاق، وهو يوم القيامة، أو هو المفعول الثاني اتساعاً، أو أصالة، فإنه من شدة هوله وفظاعته حقيق بالإنذار أصالة.
وسمي يوم القيامة يوم التلاق ؛ لأنه تتلاقى فيه الأرواح والأجساد، وأهل السماوات والأرض والعابدون والمعبودون والعاملون والأعمال والأولون والآخرون والظالمون والمظلومون، وأهل النار مع الزبانية.
﴿يَوْمَ هُم بَـارِزُونَ﴾ : بدل من يوم التلاق يقال : برز بروزاً : خرج إلى البراز ؛ أي : الفضاء كتبرز وظهر بعد الخفاء كبرز بالكسر ؛ أي : خارجون من قبورهم، أو ظاهرون لا يسترهم شيء من جبل، أو أكمة، أو بناء لكون الأرض يومئذٍ مستوية، ولا عليهم ثياب، إنما هم عراة مكشوفون، كما في الحديث :"يحشرون حفاة عراة غرلاً جمع حاففٍ وهو من لا نعل له، وجمع عارٍ، وهو من لا لباس عليه، وجمع أغرل، وهو الأقلف الذي لم يختن ؛ أي : غير مختونين إلا قوماً ماتوا في الغربة مؤمنين لم يزنوا ؛ فإنهم يحشرون، وقد كسوا ثياباً من الجنة، وقوماً أيضاً من أمة محمد عليه السلام، فإنه عليه السلام، قال : يوماً بالغوا في أكفان موتاكم ؛ فإن أمتي يحشر بأكفانها وسائر الأمم حفاة عراة".


الصفحة التالية
Icon