وقال بعضهم : خيانته في الصدور أن لا يصير في مقام القبض ليجري عليه أحكام الحقيقة، ثم ينكشف له عالم البسط، فقد وصف الله خيانة العيون وخفايا الصدور.
وقال : لا يخفى عليه شيء من ذلك، وذلك أن العين باب من أبواب القلب، فإذا رأت شيئاً يكون حظ القلب منه يعلم ذلك نفسه، فيطلب الحظ منه، ومن القلب إلى العين باب يجري عليها حركة هواجس النفس تحثها على النظر إلى شيء فيه لها نصيب، فإذا تحققت ذلك علمت أن خيانة الأعين متعلقة بما تخفي الصدور، وإذا كان العارف عارفاً بنفسه وراضها برياضات طويلة وطهرها بمجاهدات كثيرة وزمها بزمام الخوف وآداب الشريعة، صارت صافية من حظوظها، ولكن بقيت في سرها جبلتها على الشهوات، ففي كل لحظة يجري في سرها طلب حظوظها، ولكنها سترتها عن العقل وأخفتها عن الروح من خوفها، فإذا وجدت الفرصة خرجت إلى رؤية العين، فتنظر إلى مرادها، فتسرق حظها من النظر إلى المحارم، وذلك النظر خفي، وتلك الشهوة خفية وصفهما الله سبحانه في هذه الآية، واستعاذ منهما النبي عليه السلام، حيث قال : أعوذ بك من شهوة خفية، ثم إن الروح العاشق إذا احتجب عن مشاهدة جمال الأزل ينقبض ويطلب حظه، ولا يقدر أن ينظر إلى الحق، فيطلب ذلك من الصورة الإنسانية التي فيها آثار الروحانية، فينظر من منظره إلى منظر العقل، ومن منظر العقل إلى منظر القلب، ومن منظر القلب إلى منظر النفس، ومن منظر النفس إلى منظر الصورة، وينظر من العين إلى جمال المستحسنات، لينكشف له ما استتر
١٧١
عنه من شواهد الحق، فتذهب النفس معه وتسرق بحثه حظها، من النظر بالشهوة، فذلك النظر منها غير مرضي في الشرع، والطريقة والحقيقة، وكذا نظر الروح إلى الحق بالوسائط خيانة، فيلزم عليه أن يصبر على الانقباض إلى أن يتجلى له جمال الحق بغير واسطة.
قال الشيخ سعدي :
جرا طفل يك روزه هو شش نبرد
كه در صنع ديدن جه بالغ جه بلغ جه خرد
محقق همي بيند اندر ابل
كه درخو برويان جبن وجكل
ومن الله التوفيق لنظر التحقيق.
﴿وَاللَّهُ يَقْضِى﴾ يحكم.
﴿بِالْحَقِّ﴾ ؛ أي : بالصدق والعدل في حق كل محسن ومسيء ؛ لأنه المالك الحاكم على الإطلاق، فلا يقضي بشيء إلا وهو حق وعدل يستحقه المكلف، ويليق به ففيه تشديد لخوف المكلف.
﴿وَالَّذِينَ يَدْعُونَ﴾ ؛ أي : يعبدونهم.
﴿مِن دُونِهِ﴾ تعالى، وهم : الأصنام.
وبالفارسية :(وآنانهم را كه مى برستند مشركان بدون خدا).
﴿لا يَقْضُونَ بِشَىْءٍ﴾ :(حكمى نمى كنند ايشان بجيزى زيرا كه اكر جماداند ايشانرا قدرت بدان نيست واكر حيوانند مخلوق ومملوك اند ومخلوق راقوت حكم وفرمان نيست).
جزء : ٨ رقم الصفحة : ١٤٨
وفي "الإرشاد" : هذا تهكم بهم ؛ لأن جماداً، لا يقال في حقه يقضي ولا يقضى.
﴿إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ : تقرير لعلمه تعالى بخائنة الأعين وقضائه بالحق، فإن من يسمع ما يقولون، ويبصر ما يفعلون إذا قضى قضى بالحق ووعيد لهم على ما يفعلون، ويقولون وتعريض بحال ما يدعون من دونه، فإنهم عريانون عن التلبس بهاتين الصفتين، فكيف يكونون معبودين.
وفي الآية إشارة إلى أن الله تعالى يقضي للأجانب بالبعاد والوصال لأهل الوداد، ويخرج السالكين من تعلقات أوصافهم على ما قضى به، وقدر في الأزل، وإن كان بواسطة إيمانهم وأعمالهم الصالحة، أن الله قد سمع سؤال الحوائج في الأزل، وهم بعد في العدم، وكذا سمع أنين نفوس المذنبين وحنين قلوب المحبين وأبصر بحاجاتهم، ثم إنه لما بالغ في تخويف الكفار بأحوال الآخرة أردفه بالتخويف بأحوال الدنيا، فقال :
﴿وَاللَّهُ يَقْضِى بِالْحَقِّا وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِه لا يَقْضُونَ بِشَىْءٍا إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ * أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِى الارْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَـاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَءَاثَارًا فِى الارْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِن وَاقٍ * ذَالِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَـاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّه إِنَّه قَوِىٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾.
﴿أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِى الأرْضِ﴾ :(آيا سفر نميكنند مشركان مكه درزمين ويمن براى تجارت).
﴿فَيَنظُرُوا﴾ : يجوز أن يكون منصوباً بالعطف على أن يسيروا، وأن يكون منصوباً على أنه جواب الاستفهام.
﴿كَيْفَ كَانَ عَـاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِن قَبْلِهِمْ﴾ ؛ أي : مآل حال من قبلهم من الأمم المكذبة لرسلهم كعاد وثمود وأضرابهم، وكانت ديارهم ممر تجار قريش.
﴿كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً﴾، قدرة وتمكناً من التصرفات، وإنما جيء بضمير الفصل مع أن حقه التوسط بين معرفتين كقوله : أولئك هم المفلحون لمضاهاة أفعل من للمعرفة في امتناع دخول اللام عليه.


الصفحة التالية
Icon