اعلم أن أكثر المفسرين حملوا هذا الكلام على ظاهره، وذكروا في كيفية بناء ذلك الصرح حكاية سبقت في القصص.
وقال بعضهم : إن هذا بعيد جداً من حيث أن فرعون إن كان مجنوناً لم يجز حكاية كلامه ولا إرسال رسول يدعوه، وإن كان عاقلاً، فكل عاقل يعلم بديهة أنه ليس في قوة البشر وضع بناء أرفع من الجبل، وأنه لا يتفاوت في البصر حال السماء بين أن ينظر من أسفل الجبل، ومن أعلاه، فامتنع إسناده إلى فرعون، فذكروا لهذا الكلام توجهين يقربان من العقل الأول، وأنه أراد أن يبني له هامان رصداً في موضع عال ليرصد منه أحوال الكواكب التي هي أسباب سماوية تدل على الحوادث الأرضية، فيرى هل فيها ما يدل على إرسال الله إياه، والثاني : أن يرى فساد قول موسى عليه السلام ؛ بأن إخباره من إله السماء، ويتوقف على اطلاعه عليه ووصوله إليه، وذلك لا يتأتى إلا بالصعود إلى السماء، وهو مما لا يقوى عليه الإنسان، وإن كان أقدر أهل الأرض كالملوك، فإذا لم يكن طريق إلى رؤيته وإحساسه وجب نفيه وتكذيب من ادعى أنه رسول من قبله، وهو موسى فعلى هذا التوجيه الثاني يكون فرعون من الدهرية الزنادقة، وشبهته فاسدة ؛ لأنه لا يلزم من امتناع كون الحس طريقاً إلى معرفة الله امتناع معرفته مطلقاً، إذ يجوز أن يعرف بطريق النظر والاستدلال بالآثار، كما قال ربكم : آبائكم الأولين.
وقال : رب المشرق والمغرب وما بينهما، ولكمال جهل اللعين بالله، وكيفية استنبائه أورد الوهم المزخرف في صورة الدليل.
وقال الكلبي : اشتغل فرعون بموسى، ولم يتفرغ لبنائه.
وقال بعضهم : قال فرعون : ذلك تمويهاً.
وبعضهم قال : لغلبة جهله.
والظاهر أن الله تعالى إذا شاء يعمي ويصم من شاء فخلى فرعون ونفسه ليتفرغ لبناء الصرح ليرى منه آية
١٨٣
أخرى له، وتتأكد العقوبة، وذلك لأن الله تعالى هدمه بعد بنائه على ما سبق في القصص، وأيضاً هذا من مقتضى التكبر والتجبر الذي نقل عنه، كما مثله عن بخت نصر ؛ فإنه أيضاً لغاية عتوه واستكباره، بنى صرحاً ببابل على ما سبقت قصته، وأيضاً : كيف يكون من الدهرية والمنقول المتواتر عنه أنه كان يتضرع إلى الله تعالى في خلوته لحصول مهامه، ومن الله الفهم والعناية، ويدل على ما ذكرنا أيضاً، قوله تعالى :﴿وَكَذَالِكَ﴾ ؛ أي : ومثل ذلك التزيين البليغ المفرط.
﴿زُيِّنَ﴾ :(آرايش داده شد).
﴿لِفِرْعَوْنَ سُواءُ عَمَلِهِ﴾ ؛ أي : عمله السيِّىء، فانهمك فيه انهماكاً لا يرعوي عنه بحال.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ١٤٨
﴿وَصُدَّ﴾ : صرف ومنع.
﴿عَنِ السَّبِيلِ﴾ ؛ أي : سبيل الرشاد، والفاعل في الحقيقة هو الله تعالى، وبالتوسط هو الشيطان.
ولذا قال : زين لهم الشيطان أعمالهم، وهذا عند أهل السنة.
وأما عند المعتزلة، فالمزين والصاد هو الشيطان.
﴿وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ﴾ :(ونبود مكر فرعون درساختن قصر ودر ابطال آيات).
﴿إِلا فِى تَبَابٍ﴾ ؛ أي : خسار وهلاك.
وفي "التأويلات النجمية" : يشير إلى أن من ظن أن الله سبحانه وتعالى في السماء كما ظن فرعون ؛ فإنه فرعون وقته ولو لم يكن من المضاهاة بين من يعتقد أن الله سبحانه في السماء، وبين الكافر إلاهذا لكفى به في زيغ مذهبه، وغلط اعتقاده ؛ فإن فرعون غلط إذ توهم أن الله في السماء، ولو كان في السماء لكان فرعون مصيباً في طلبه من السماء.
وقوله : وكذلك.
إلخ.
يدل على أن اعتقاده بأن الله في السماء خطأ، وأنه بذلك مصدود عن سبيل الله، وما كيد فرعون في طلب الله من السماء إلا في تباب ؛ أي : خسران وضلال.
انتهى.
وعن النبي عليه السلام :"أن الله تعالى احتجب عن البصائر كما احتجب عن الأبصار، وأن الملأ إلا على يطلبونه كما تطلبونه أنتم"، يعني : لو كان في السماء لما طلبه أهل السماء، ولو كان في الأرض لما طلبه أهل الأرض، فإذا هوالآن على ما كان عليه قبل من التنزه عن المكان، وفي "هدية المهديين" : إذا قال الله في السماء وأراد به المكان يكفر اتفاقاً ؛ لأنه ظاهر في التجسم، وإن لم يكن له نية يكفر عند أكثرهم، وإن أراد به الحكاية عن ظاهر الإخبار لا يكفر، وعن معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه : أنه قال : أتيت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فقلت : يا رسول الله إن جارية لي كانت ترعى غنماً لي فجئتها، وفقدت شاة من الغنم فسألتها عنها، فقالت : أكلها الذئب، فأسفت عليها، وكنت من بني آدم فلطمتها ؛ أي : على وجهها وعلى رقبتها، أفأعتقها عنها، فقال لها رسول الله :"أين الله؟"، فقالت : في السماء، فقال :"من أنا؟"، فقالت : أنت رسول الله، فقال عليه السلام :"أعتقها فإنها مؤمنة".