اعلم أنه قد دل الدليلي العقلي على استحالة حصر الحق في أينية، والشارع لما علم أن الجارية المذكورة ليس في قوتها أن تتعقل موجدها إلا على تصوير في نفسها خاطبها بذلك، ولو أنه خاطبها بغير ما تصورته في نفسها لارتفعت الفائدة المطلوبة، ولم يحصل القبول فكان من حكمته عليه السلام ؛ أن سأل مثل هذه الجارية بمثل هذا السؤال، وبمثل هذه العبارة، ولذلك لما أشارت إلى السماء.
قال فيها :"إنها مؤمنة" يعني : مصدقة بوجود الله تعالى، ولم يقل أنها عالمة ؛ لأنها صدقت قول الله، وهو الله في السماوات، ولو كانت عالمة لم تقيده بالسماء، فعلم أن للعالم أن يصحب الجاهل في جهله تنزلاً لعقله، والجاهل لا يقدر على صحبته العالم بغير تنزل.
كذا في "الفتوحات
١٨٤
المكية".
وفيه أيضاً : أنه لا يلزم من الإيمان بالفوقية الجهة، فقد ثبتت، فانظر ماذا ترى وكن أهل السنة من الورى.
انتهى.
وفي المثنوي :
جزء : ٨ رقم الصفحة : ١٤٨
قرب نى بالانه يستى رفتن است
قرب حق از حبس هستى رستن است
نيست راجه جاى بالا است وزير
نيست را زود ونه دورست ونه دير
يقول الفقير : يعرف من هذا الكلام أن وجود الأشياء وماهياتها الممكنة اعتباري.
والاعتباري لا وجود له حقيقة، وإنما يقوم بوجود الله تعالى لقيام الظل بذي الظل، فإذا كان وجود الموجودات في حكم العدم، فما معنى كون وجود الله تعالى متقيداً بالعدم ؛ بأن يظهر في أينية مخصوصة دون غيرها سبحانه، فافهم.
﴿أَسْبَـابَ السَّمَـاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَـاهِ مُوسَى وَإِنِّى لاظُنُّه كَـاذِبًا وَكَذَالِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُواءُ عَمَلِه وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِا وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلا فِى تَبَابٍ * وَقَالَ الَّذِى ءَامَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ * يا قَوْمِ إِنَّمَا هَـاذِهِ الْحَيَواةُ الدُّنْيَا مَتَـاعٌ وَإِنَّ الاخِرَةَ هِىَ دَارُ الْقَرَارِ﴾.
﴿وَقَالَ الَّذِى ءَامَنَ﴾ ؛ أي : مؤمن آل فرعون.
يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ} فيما دللتكم عليه أصله يا قومي اتبعوني.
﴿أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ﴾ ؛ أي : سبيلاً يصل سالكه إلى المقصود والرشد والرشاد الاهتداء لمصالح الدين والدنيا.
وفيه تعريض بأن ما يسلكه فرعون وقومه سبيل الغي والضلال.
وفيه إشارة إلى أن الهداية مودعة في اتباع الأنبياء والأولياء وللولي أن يهدي سبيل الرشاد بتبعية النبي عليه السلام كما يهدي النبي إليه، ومن الهداية قوله : يا قَوْمِ إِنَّمَا هَـاذِهِ الْحَيَواةُ الدُّنْيَا مَتَـاعٌ} : اسم بمعنى المتعة، وهي التمتع والانتفاع لا بمعنى السلعة ؛ لأن وقوعه خبراً عن الحياة الدنيا يمنع منه ؛ أي : تمتع يسير، وانتفاع قليل لسرعة زوالها ؛ لأن الدنيا بأسرها ساعة، فكيف عمر إنسان واحد.
وبالفارسية :(بساط عيش او باندك فرصتى در نور دند ونامة معاشرت أورا رقم ابطال درسر كشند) :
بباغ دهر كه بس تازه رنك وخوش بويست
مباش غره كه رنج خزان زبى دارد
زمان زمان بد مدريح نكبت وادبار
جه رنك وبوكه نشانى ازان نكذارد
قال محمد بن علي الترمذي قدس سره : لم تزل الدنيا مذمومة في الأمم السالفة عند العقلاء منهم، وطالبوها مهانين عند الحكماء الماضية، وما قام داع في أمة إلا حذر متابعة الدنيا وجمعها والحب لها، ألا ترى إلى مؤمن آل فرعون كيف قال : اتبعون أهدكم سبيل الرشاد ؛ كأنهم قالوا : وما سبيل الرشاد، قال : إنما هذه.
إلخ.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ١٤٨
يعني : لن تصل إلى سبيل الرشاد، وفي قلبك محبة للدنيا وطلب لها.
﴿وَإِنَّ الاخِرَةَ هِىَ دَارُ الْقَرَارِ﴾.
لخلودها ودوام ما فيها فالدائم خير من المنقضي.
قال بعض العارفين : لو كانت الدنيا ذهباً فانياً، والآخرة خزفاً باقياً، لكانب الآخرة خيراً من الدنيا، فكيف والدنيا خزف فاننٍ، والآخرة ذهب باققٍ.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم نام على حصير، فقام وقد أثر في جسده، فقال ابن مسعود رضي الله عنه : يا رسول الله لو أمرتنا أن نبسط لك لنفعل، فقال : ما لي وللدنيا وأنا لنا والدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة، ثم راح وتركها".
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي عليه السلام.
قال :"يا بني أكثر ذكر الموت، فإنك إذا أكثرت ذكر الموت زهدت في الدنيا، ورغبت في الآخرة، وإن الآخرة دار قرار والدنيا غرارة، والمغرور من اغتر بها" :
تو غافل در انديشة سود مال
كه سرماية عمر شد بايمال
جه خوش كفت باكودك آموزكار
كه كارى نكرديم وشد روزكار
١٨٥