قال ابن الشيخ في "حواشيه" هذا يؤذن بأن العرض ليس بمعنى التعذيب والإحراق، بل بمعنى الإظهار والإبراز، وأن الكلام على القلب كما في قولهم : عرضت الناقة على الحوض، فإن أصله عرضت الحوض على الناقة بسوقها إليه وإيرادها عليه، فكذا هنا أصل الكلام تعرض عليهم ؛ أي : على أرواحهم بأن يساق الطير التي أرواحهم فيها ؛ أي : في أجوافها إلى النار.
وفي الحديث :"إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي إن كان من أهل الجنة، فمن الجنة، وإن كان من أهل النار، فمن النار.
يقال : هذا مقعدك حتى يبعثك الله يوم القيامة".
يعني :(اينست جاى توتا كه برانكيز دترا خداى بسوى وى دررورز قيامت).
يقول الفقير : أما كون أرواحهم في أجواف طير سود، فليس المراد ظرفية الأجواف للأرواح حتى لا يلزم التناسخ، بل هو تصوير لصور أرواحهم البرزخية.
وأما العرض بمعنى الإظهار، فلا يقتضي عدم التعذيب، فكل روح.
إما معذب، أو منعم وللتعذيب والتنعيم مراتب، ولأمر ما
١٨٩
ذكرالله تعالى عرض أرواح آل فرعون على النار، فإن عرضها ليس كعرض سائر الأرواح الخبيثة.
قال في "عين المعاني" : قال رجل للأوزاعي رأيت طيراً لا يعلم عددها إلا الله تخرج من البحر بيضاء، ثم ترجع عشياً سوداء، فما هي قال : أرواح آل فرعون تعرض وتعود والسواد من الإحراق هذا ما دامت الدنيا.
﴿وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ﴾ : وتعود الأرواح إلى الأبدان يقال للملائكة :﴿أَدْخِلُوا ءَالَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ﴾ ؛ أي : عذاب جهنم، فإنه أشد مما كانوا فيه ؛ فإنه للروح والجسد جميعاً، وهو أشد مما كان للروح فقط كما في البرزخ.
وذلك أن الأرواح بعد الموت ليس لها نعيم، ولا عذاب حسي جسماني.
ولكن ذلك نعيم، أو عذاب معنوي روحاني حتى تبعث أجسادها، فترد إليها، فتعذب عند ذلك حساً، ومعنى، أو تنعم ألا ترى إلى بشر الحافي قدس سره لما رؤي في المنام.
قيل له : ما فعل الله بك.
قال : غفر لي وأباح لي نصف الجنة ؛ أي : نعيم الروح.
وأما النصف الآخر الذي هو نعيم الجسد، فيحصل بعد الحشر ببدنه والأكل الذي يراه الميت بعد موته في البرزخ هو كالأكل الذي يراه النائم في النوم، فكما أنه تتفاوت درجات الرؤيا حتى أن منهم من يستيقظ، ويجد أثر الشبع، أو الري، فكذا تختلف أحوال الموتى، فالشهداء أحياء عند ربهم، كحياة الدنيا ونعيمهم قريب من نعيم الحس، فافهم جداً، ويجوز أن يكون المعنى : أدخلوا آل فرعون أشد عذاب جهنم، فإن عذابها ألوان بعضها أشد من بعض.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ١٤٨
وفي الحديث :"أهون أهل النار عذاباً رجل في رجليه نعلان من نار يغلي منهما دماغه.
وفي "التأويلات النجمية" : ويوم تقوم الساعة يشير إلى مفارقة الروح البدن بالموت، فإن من مات فقد قامت قيامته أدخلوا آل فرعون أشد العذاب، وذلك فإن أشد عذاب فرعون النفس ساعة المفارقة ؛ لأنه يفطم عن جميع مألوفات الطبع دفعة واحدة.
والفطام عن المألوف شديد، وقد يكون الألم بقدر شدة التعلق به.
انتهى.
قال الحافظ :
غلام همت آنم كه زير جرخ كبود
زهر جه رنك تعلق بدير آزا دست
وقال غيره :
الفت مكير همجوالف هيج باكسى
تابسته الم نشوى وقت انقطاع
ثم في الآية دليل على بقاء النفس وعذاب القبر ؛ لأن المراد بالعرض التعذيب في الجملة، وليس المراد : أنهم يعرضون عليها يوم القيامة لقوله بعده ويوم تقوم الساعة.
إلخ.
وإذا ثبت في حق آل فرعون ثبت في حق غيرهم إذ لا قائل بالفصل.
وكان عليه السلام لا يصلي صلاة إلا وتعوذ بعدها من عذاب القبر.
قال عليه السلام :"من كف أذاه عن الناس كان حقاً على الله أن يكف عنه أذى القبر".
وروي عن سالم بن عبد الله : أنه قال : سمعت أبي يقول : أقبلت من مكة على ناقة لي وخلفي شيء من الماء حتى إذا مررت بهذه المقبرة مشيراً إلى مقبرة مخصوصة بين مكة والمدينة.
خرج رجل من المقبرة يشتعل من قرنه إلى قدمه ناراً، وإذا في عنقه سلسلة تشتعل ناراً، فوجهت الدابة نحوه.
أنظر إلى العجب، فجعل يقول : يا عبد الله صب علي من الماء، فخرج رجل من القبر أخذ بطرف السلسلة، فقال : لا تصب عليه الماء، ولا كرامة، فمد يده حتى انتهى به إلى القبر، فإذا معه سوط يشتعل ناراً، فضربه حتى دخل القبر.
قال وهب بن منبه : من قرأ
١٩٠
باسم الله، وبالله وعلى ملة رسول الله، رفع الله العذاب عن صاحب القبر أربعين سنة.
كذا في "زهرة الرياض" : قال العلماء : عذاب القبر هو عذاب البرزخ أضيف إلى القبر ؛ لأنه الغالب، وإلا فكل ميت أراد الله تعذيبه ناله ما أراد به قبر، أو لم يقبر بأن صلب أو غرق في "البحر"، أو أحرق حتى صار رماداً وذري في الجو.
قال إمام الحرمين : من تفرقت أجزاؤه يخلق الله الحياة في بعضها، أو كلها، ويوجه السؤال عليها، ومحل العذاب والنعيم ؛ أي : في القبر هو الروح والبدن جميعاً باتفاق أهل السنة.
قال اليافعي : وتختص الأرواح دون الأجساد بالنعيم والعذاب ما دامت في عليين أو سجين.
وفي القبر : يشترك الروح والجسد.


الصفحة التالية
Icon