وفي "التأويلات النجمية" : كمال النصرة في الظفر على أعدى عدوك، وهي نفسك التي بين جنبيك هو الجهاد الأكبر، ولا يمكن الظفر على النفس إلا بنصرة الحق تعالى للقلب إذا تحقق عند العبد أن الخلق أشباح يجري عليهم أحكام القدر، فالولي لا عدو له، ولا صديق إلا الله.
ولهذا قال عليه السلام أعوذ بك منك.
﴿وَيَوْمَ يَقُومُ الاشْهَـادُ﴾ : جمع شاهد كصاحب وأصحاب ؛ أي : لننصرنهم في الدنيا والآخرة، وعبر عن يوم القيامة بذلك للإشعار بكيفية النصرة، وأنها تكون عند جمع الأولين والآخرين بشهادة الأشهاد للرسل بالتبليغ، وعلى الكفرة بالتكذيب، وهم الملائكة والمؤمنون من أمة محمد عليه السلام.
قال تعالى :﴿وَكَذَالِكَ جَعَلْنَـاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ﴾ (البقرة : ١٤٣).
﴿يَوْمَ لا يَنفَعُ الظَّـالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ﴾.
بدل من اليوم الأول والمعذرة بمعنى العذر، وقد سبق معناه في أول السورة ؛ أي : لا ينفعهم عذرهم عن كفرهم لو اعتذروا في بعض الأوقات ؛ لأن معذرتهم باطلة، فيقال
١٩٣
لهم : اخسؤوا ولا تكلمون.
ويجوز أن يكون عدم نفع المعذرة ؛ لأنه لا يؤذن لهم، فيعتذرون، فيكون من نفي المقيد والقيد لا معذرة ولا نفع يومئذٍ.
وفي "عرائس البيان" : ظلمهم عدولهم عن الحق إلى الخلق واعتذارهم في الآخرة لا في الدنيا.
وفيه إشارة إلى المؤثر هو سوابق العنايات لا الأوقات.
﴿وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ﴾ ؛ أي : البعد عن الرحمة.
﴿وَلَهُمْ سُواءُ الدَّارِ﴾ ؛ أي : جهنم بخلاف المؤمنين العارفين ؛ فإنها تنفعهم لتنصلهم.
يعني :(از كناه بيرازى نمودن).
لكونه في وقته ولهم من الله الرحمة، ولهم حسن الدار، وإنما قال : سوء الدار، فإن جهنم حرها شديد وقعرها بعيد وحليها حديد وشرابها صديد، وكلامها هل من مزيد؟ وأسوأ الظالمين المشركون كما قال تعالى حكاية عن لقمان :﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ (لقمان : ١٣) وأسوأ المشركين المنافقون كما قال تعالى :﴿إِنَّ الْمُنَـافِقِينَ فِى الدَّرْكِ الاسْفَلِ مِنَ النَّارِ﴾ (النساء : ١٤٥) لاستهزائهم بالمؤمنين، فليحذر العاقل عن الظلم سواء كان لنفسه بالإشراك والمعصية أو لغيره، بكسر العرض وأخذ المال، ونحوهما.
وليتذكر الإنسان يوماً يقول فيه الظالمون : ربنا أخرجنا منها نعمل صالحاً غير الذي كنا نعمل، فيجيبهم الله تعالى :﴿أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَآءَكُمُ النَّذِيرُا فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّـالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ﴾ (فاطر : ٣٧).
جزء : ٨ رقم الصفحة : ١٤٨
وروي أن أهل النار يبكون بكاء شديداً حتى الدم، فيقول مالك : ما أحسن هذا البكاء لو كان في الدنيا.
قال الشيخ سعدي :
كنونت كه جشمست اشكى بيار
زبان دردهانست عذرى بيار
كنون بايدت عذر تقصير كفت
نه جون نفس ناطق زكفتن بخفت
كنون بايداى خفته بيدار بود
جو مرك اندر آيدز خوابت جه سود
كنون وقت تخمست اكر بدروى
كراميد دارى كه خر من برى
فعلم أنه لا تنفع المعذرة والبكاء في الآخرة، فليتدارك العاقل تقصيره في الدنيا بالندامة والصلاح والتقوى، ليستريح في الآخرة، ويصل إلى الدرجات العلى مع الأنبياء والصديقين والشهداء والصلحاء، فمن أراد اللحوق بزمرتهم، فليكن على حالهم وسيرتهم، فإن الله ينصرهم في دنياهم وآخرتهم، فإن طاعة الله وطاعة الرسول توصل العبد إلى المرام، وإلى حيز القبول.
روي : أن بعض الصحابة رضي الله عنهم.
قال النبي عليه السلام :"كيف نراك بالجنة وأنت في الدرجات العلى، فأنزل الله تعالى، ومن يطع الله والرسول، فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقاً، فلا بد من الإطاعة، وعلى تقدير المخالفة، فباب التوبة مفتوح.
عن كعب الأحبار : أن رجلاً من بني إسرائيل أراد الاغتسال من فاحشة في نهر فناداه النهر : أما تستحي من الله تعالى، فتاب الرجل ثم عبد الله تعالى مع اثني عشر رجلاً، فبعد زمان أرادوا العبور عن النهر المذكور، فتخلف صاحب الاغتسال استحياء.
فقال النهر : إن أحدكم إذا غضب على ولده، فتاب هو قبل توبته، فاعبدوا الله على شاطىء، فأقاموا هناك زماناً، فمات صاحب الاغتسال، فناداهم النهر : أن ادفنوه على شاطىء، فدفنوه، وأصبحوا وقد أنبت الله على قبره اثني عشر سرواً على عدد العابدين.
وكان ذلك أول سرو أنبت الله في الأرض، وكل من مات دفنوه هناك، وكان بنو إسرائيل يزورون قبورهم.
﴿يَوْمَ لا يَنفَعُ الظَّـالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُواءُ الدَّارِ * وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِى إسرائيل الْكِتَـابَ * هُدًى وَذِكْرَى لاوْلِى الالْبَـابِ * فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنابِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ﴾.
﴿وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا﴾ بمحض فضلنا
١٩٤