فالأساس هو الإيمان والتوحيد، ثم يبنى عليه سائر الواجبات.
قال مالك بن دينار رحمه الله : رأيت جماعة في البصرة يحملون جنازة، وليس معهم أحد ممن يشيع الجنازة، فسألتهم عنه، فقالوا : هذا من كبار المذنبين، قال : فصليت عليه وأنزلته في قبره، ثم انصرفت إلى الظل، فنمت، فرأيت ملكين نزلا من السماء، فشقا قبره ونزل أحدهما في القبر، وقال : اكتبه من أهل النار ؛ لأنه لم تسلم جارحة منه عن الذنب، فقال الآخر : لا تعجل، ثم نزل هو، فقال لصاحبه : قد اختبرت قلبه، فوجدته مملوءاً بالإيمان، فاكتبه مرحوماً، فإذا صلح القلب بالتوحيد والإيمان بالله واليوم الآخر يرجى أن يتجاوز الله عن سيئاته، ثم إن الساعة ارتاب فيها المرتابون مع وضوح شواهدها، وأما أهل الإيمان والعيان فرأوها كأنها حاضرة.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ١٤٨
روي : أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم سأل حارثة كيف أصبحت يا حارثة.
قال : أصبحت مؤمناً حقاً، قال : يا حارثة إن لكل حق حقيقة، فما حقيقة إيمانك.
قال : عزفت نفسي عن الدنيا ؛ أي : زهدت وانصرفت، فأظمأت نهارها وأسهرت ليلها واستوى عندي حجرها وذهبها، وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون، وإلى أهل النار يتضاغون ؛ أي : يصوتون باكين ؛ وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزاً، فقال عليه السلام : أصبت فالزم.
ومن كلمات أمير المؤمنين عليّ رضي الله عنه :"لو كشف الغطاء ما ازددت يقيناً" :
حال خلد وجحيم دانستم
بيقين آنجنانكه مى بايد
كر حجاب ازميانه بر كيرند
آن يقين ذرة نيفزايد
فظهر أن هذا حال أهل العيان فأين المحجوب على هذا، فلما كانا لا يستويان في الدنيا علماً ومعرفة وشهوداً، كذلك لا يستويان في الآخرة درجة وقربة وجوداً نسأل الله سبحانه أن يجعلنا من الصالحين المحسنين الفائزين بمطالب الدنيا والدين والآخرة.
﴿إِنَّ السَّاعَةَ لاتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ * وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ * اللَّهُ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ﴾.
﴿قَالَ رَبُّكُمْ﴾ أيها الناس.
﴿ادْعُونِى﴾ وحدوني واعبدوني.
﴿أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ ؛ أي : أثبكم بقرينة قوله تعالى :﴿إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى﴾ يتعظمون عن طاعتي ﴿سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ﴾ حال كونهم ﴿دَاخِرِينَ﴾ ؛ أي : صاغرين أذلاء فإن الدخو بالفارسية :(خوارشدن.
من دخر كمنع
٢٠٠
وفرح صغر وذل).
وإن فسر بالسؤال كان الاستكبار الصارف عنه منزلاً منزلة الاستكبار عن العبادة، فأقيم الثاني مقام الأول للمبالغة.
أو المراد بالعبادة الدعاء، فإنه من أفضل أبوابها، فأطلق العام على الخاص مجازاً.
قال الكاشفي :(مرد از دعا سؤالست يعني بخواهيد كه خزانة من مالا مالست وكرم من بخشدة آمال كدام كداست نياز بيش آورده كه نقد مراد بركف اميدش ننهادم وكدام محتاج زبان سؤال كشاد كه رقعة حاجنش رابتو قيع اجابت موشح نساحتم) :
جزء : ٨ رقم الصفحة : ١٤٨
برآستان ارادت كه سر نهادشبى
كه لطف دوست برويش دريجة نكشود
يقال : ادعوني بلا غفلة أستجب لكم بلا مهلة ادعوني بلا خفاء أستجب لكم بالوفاء ادعوني بلا خطأ، أستجب لكم بالعطاء، ادعوني بشرط الدعاء، وهو الأكل من الحلال.
قيل : الدعاء مفتاح الحاجة وأسنانه لقمة الحلال.
قال الحكيم الترمذي قدس سره : من دعا الله، ولم يعمر قبل ذلك سبيل الدعاء بالتوبة والإنابة وأكل الحلال واتباع السنن ومراعاة السر، كان دعاؤه مردوداً، وأخشى أن يكون جوابه الطرد واللعن.
يقال : كان من دعاه استجاب له إما بما سأله، أو بشيء آخر هو خير له منه.
ويقال : الكافر ليس يدعوه حقيقة ؛ لأنه إنما يدعو من له شريك، والله تعالى لا شريك له.
وكذا المعطلة ؛ لأنهم إنما يعبدون إلهاً لا صفات له في الحياة والسمع والبصر والكلام والقدرة والإرادة بزعمهم، فهم لا يعبدون الله تعالى، وكذا المشبهة إنما يدعون إلهاً له جوارح وأعضاء، والله تعالى منزه عن ذلك ؛ فإنه ليس كمثله شيء، وهو السميع البصير.