﴿اللَّهُ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ * ذَالِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَـالِقُ كُلِّ شَىْءٍ لا إله إِلا هُوَا فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ * كَذَالِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بآيات اللَّهِ يَجْحَدُونَ﴾.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ١٤٨
﴿ذَالِكُمُ﴾ المتفرد بالأفعال المقتضية للألوهية والربوبية.
﴿اللَّهُ رَبُّكُمْ خَـالِقُ كُلِّ شَىْءٍ لا إله إِلا هُوَ﴾ : أخبار مترادفة تخصص السابقة منها اللاحقة وتقررها.
قال في "كشف الأسرار" : كل ها هنا بمعنى البعض.
وقيل : عام خص منه ما لا يدخل في الخلق.
﴿فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ﴾، فكيف ومن أي وجه تصرفون عن عبادته خاصة إلى عبادة غيره.
﴿كَذَالِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بآيات اللَّهِ يَجْحَدُونَ﴾ ؛ أي : مثل ذلك الإفك للعجب الذي لا وجه له، ولا مصحح، أصلاً ؛ أي : كما صرف قومك، وهم قريش عن الحق وحرموا من التحلي به مع قيام الدلائل يؤفك، ويصرف عنه كل جاحد قبلهم، أو بعدهم بآياته ؛ أي آية كانت لا إفكاً آخر له وجه، ومصحح في الجملة.
قال الراغب : الإفك كل مصروف عن وجهه الذي يحق أن يكون عليه، ومنه قيل للرياح العادلة عن المهاب المؤتفكات.
وقوله : أنى تؤفكون ؛ أي : تصرفون من الحق في الاعتقاد إلى الباطل، ومن الصدق في المقال إلى الكذب، ومن الجميل في الفعل إلى القبيح.
ورجل مأفوك ؛ أي : مصروف عن الحق إلى الباطل والجحود نفي ما في القلب إثباته وإثبات ما في القلب نفيه وتجحد تخصص بفعل ذلك، فعلى العبد أن يقر بمولاه، وبآياته، فإنه خالقه ورازقه.
وجاء في أحاديث المعراج : قل لأمتك إن أحببتم أحداً لإحسانه إليكم، فأنا أولى به لكثرة نعمي عليكم، وإن خفتم أحداً من أهل السماء والأرض، فأنا أولى بذلك لكمال قدرتي، وإن أنتم رجوتم أحداً، فأنا أولى به ؛ لأني أحب عبادي، وإن أنتم استحييتم من أحد لجفائكم إياه، فأنا أولى بذلك ؛ لأن منكم الجفاء، ومني الوفاء، وإن أنتم آثرتم أحداً بأموالكم وأنفسكم، فأنا أولى به ؛ لأني معبودكم، وإن صدقتم أحداً وعده، فأنا أولى بذلك ؛ لأني أنا الصادق، ففي العبودية والمعرفة شرف عظيم.
قال علي رضي الله عنه : ما يسرني أن لو مت طفلاً وأدخلت الجنة، ولم أكبر، فأعرف، وذلك لأن الإنسان خلق للعبادة والمعرفة، فإذا ساعده العمر والوقت يجب عليه أن يجتهد إلى أن يترقى إلى ذروة المطالب، ويصل إلى مرتبة استعداده، فإذا أهمل وتكاسل، فمات كان كالصبي الذي مات في صباه خالياً عن حلية الكمالات والسعادات نسأل الله سبحانه أن يجعلنا من المجتهدين.
﴿كَذَالِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بآيات اللَّهِ يَجْحَدُونَ * اللَّهُ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الارْضَ قَرَارًا وَالسَّمَآءَ بِنَآءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَـاتِا ذَالِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَـالَمِينَ * هُوَ الْحَىُّ لا إله إِلا هُوَ فَـادْعُوهُ﴾.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ١٤٨
﴿اللَّهُ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ﴾ لمصالحكم وحوائجكم.
﴿الارْضَ قَرَارًا﴾ مستقراً ؛ أي : موضع
٢٠٤
قرار ومكان ثبات وسكون، فإن القرار كما يجيء بمعنى الثبات والسكون يجيء بمعنى ما قر فيه، وبمعنى المطمئن من الأرض كما في "القاموس".
قال ابن عباس رضي الله عنهما : قراراً ؛ أي : منزلاً في حال الحياة وبعد الممات.
﴿وَالسَّمَآءَ بِنَآءً﴾ : البناء بمعنى المبنى ؛ أي : قبة مبنية مرفوعة فوقكم، ومنه أبنية العرب لمضاربهم، وذلك لأن السماء في نظر العين كقبة مضروبة على فضاء الأرض.
وفي "التأويلات النجمية" : خلق الأرض لكم استقلالاً ولغيركم طفيلياً، وتبعاً لتكون مقركم، والسماء أيضاً خلق لكم لتكون سقفكم مستقلين به، وغيركم تبع لكم فيه.
وقال بعضهم : جعل الأرض قراراً لأوليائه، والسماء بناء لملائكته.
وفيه إشارة إلى قوله : أوليائي تحت قبابي ؛ أي : مستورون تحت قباب الملكوت، لا تنكشف أحوالهم إلا لمن عرفه الله تعالى.
وفي الآية بيان لفضله تعلق المتعلق بالمكان بعد بيان فضله المتعلق بالزمان.
وقوله تعالى :﴿وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ﴾ : بيان لفضله المتعلق بأنفسهم، والفاء : في فأحسن تفسيرية، فإن الإحسان عين التصوير، كما قوله عليه السلام :"إنأدبني فأحسن تأديبي"، فإن الإحسان عين التأديب، فإن تأديب الله لمثله لا يكون إلا حسناً، بل أحسن.
والمعنى : صوركم أحسن تصوير حيث خلقكم منتصبي القامة بادي البشرة متناسبي الأعضاء والتخطيطات متهيئين لمزاولة الصنائع واكتساب الكمالات.