قال ابن عباس رضي الله عنهما : خلق ابن آدم قائماً معتدلاً يأكل، ويتناول بيده وغير ابن آدم بفيه.
وفيه إشارة إلى أنه تعالى جعل أرض البشرية مقراً للروح وجمع سماء الروحانية في عالم صوركم، ولم يجمعها في صورة شيء آخر من الملائكة والجن والشياطين والحيوانات.
وإلى هذا المعنى أشار بقوله تعالى :﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الانسَـانَ فِى أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾ (التين : ٤).
وأيضاً : فأحسن صوركم إذ جعلها مرآة جماله، كما قال عليه السلام :"كل جميل من جمال الله"، وإنما جعلكم جميلاً ليحبكم، كما قال عليه السلام :"إن الله جميل يحب الجمال".
وبالفارسية :(حسن صورت انساني در آنست كه از مرآت جهان نماست بهمه حقائق علوى وسفلى ومجموع دقائق صورى ومعنوى را جامعست وأنوار معرفت ذات آثار شناخت صفات ازآينة جامعة أو لا مع) :
جزء : ٨ رقم الصفحة : ١٤٨
اى صورت تو آينة سر وجود
روشن زرخت برتو انوار شهود
مجموعة هر دو كونى ونيست جوتو
در مملكت صورت ومعنى موجود
وفيه إشارة إلى تخطئة الملائكة فيما قبحوا الإنسان، وقالوا : أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء، فإن الحسن ليس ما يستحسنه الناس، بل ما يستحسنه الحبيب ؛ كأن الله يقول : إن الواشين قبحوا صورتكم عندنا، بل الملائكة كتبوا في صحيفتكم قبيح ما ارتكبتم ومولاكم أحسن صوركم عنده بأن محا من ديوانكم الزلات، وأثبت في ذلك الحسنات، كما قال تعالى :﴿يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ﴾ (الرعد : ٣٩).
وقال :﴿فأولئك يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّـاَاتِهِمْ حَسَنَـاتٍ﴾ (الفرقان : ٧٠)، فحسن الصورة، والمعنى : مخصوص بالإنسان، وهو المدار، وما سواه دائر عليه.
قال الصائب :
اسرار جار دفتر ومضمون نه كتاب
در نقطة تو ساخته ايزد نهان همه
وزبهر خدمت تو فلكها جو بندكان
زا خلاص بسته اند كمر برميان همه
بيش تو سر بخاك مذلت نهاده اند
با آن علوم ومر تيه روحانيان همه
٢٠٥
﴿وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَـاتِ﴾ : من المأكولات اللذيذة.
(ومتميز كر دانيد روزى شما از روزى حيوانات).
قال في "التأويلات النجمية" : ليس الطيب ما يستطيبه الخلق، بل الطيب ما يستطيبه الحق، فإنه طيب لا يقبل إلا طيباً، فالطيب الذي يقبله الله من العبد، وهو من مكاسبه الكلم الطيب، وهي كلمة لا إله إلا الله، كما قال تعالى :﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ﴾ (فاطر : ١٠)، والطيب الذي هو من مواهب الله تعالى هو تجلى صفات جماله وجلاله.
وإليهما أشار بقوله : ورزقكم من الطيبات.
والحاصل : أن الطيب أنواع طيب الأرزاق، وطيب الأذكار وطيب الحالات.
﴿ذَالِكُمُ﴾ الذي نعت بما ذكر من النعوت الجليلة.
﴿اللَّهِ﴾ خبر لذلكم، ﴿رَبُّكُمْ﴾ الذي يستوجب منكم العبادة خبر آخر.
﴿فَتَبَارَكَ اللَّهُ﴾ صفة خاصة بالله تعالى ؛ أي : تقدس وتنزه وتعالى بذاته عن أن يكون له شريك في العبادة إذ لا شريك له في شيء من تلك النعم.
﴿رَبُّ الْعَـالَمِينَ﴾ :(برور دكار عالميان از انس وجن وجزآن) ؛ أي : مالكهم ومربيهم والكل تحت ملكونه مفتقر إليه في ذاته، ووجوده وسائر أحواله جميعاً، بحيث لو انقطع فيضه عنه آناً لانعدم بالكلية.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ١٤٨
﴿هُوَ الْحَىُّ﴾ :(اوست زنده).
أي : المنفرد بالحياة الذاتية الحقيقية لا يموت ويميت الخلق.
﴿لا إله إِلا هُوَ﴾ إذ لا موجود يدانيه في ذاته وصفاته وأفعاله.
﴿فَـادْعُوهُ﴾ : فاعبدوه خاصة لاختصاص ما يوجبه به تعالى :﴿مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ ؛ أي : الطاعة من الشرك الجلي والخفي، قائلين :﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَـالَمِينَ﴾.
عن ابن عباس رضي الله عنهما :"من قال : لا إله إلا الله، فليقل على أثرها : الحمدرب العالمين".
وفي "التأويلات النجمية" : هو الحي ؛ أي : له الحياة الحقيقية الأزلية الأبدية، ومن هو حي بإحيائه من نور صفاته، كما قال تعالى :﴿فَأَحْيَيْنَـاهُ وَجَعَلْنَا لَه نُورًا﴾ (الأنعام : ١٢٢)، ويشير بقوله : لا إله إلا هو بعد قوله : هو الحي إلى أن الذي يحيا بحياته ونور صفاته لن يبلغ رتبة الإلهية، فادعوه بالإلهية مخلصين له الدين ؛ أي : مقرين له بالعبودية من غير دعوى بالربوبية كمن ادعى بها بقوله : أنا الحق، وقول من قال : سبحاني ما أعظم شاني، الحمد الله رب العالمين، يعني : فيما أنزلكم وبلغكم مقام الوحدة بفضله ورحمته ؛ لأنها مقام لا يسع للإنسان بلوغه بمجرد سعيه من دون فضل ربه.
قال الصائب :
نيستم از كشش جذبة رحمت نوميد
كر جه از قلزم وحدت بكنار افتادم
واعلم أنه كما لا يصل العبد إلى مقام الوحدة إلا بفضل الله، كذلك لا ينجو من دعوى هذا المقام إلا بفضله تعالى، إما بتربية من عنده بلا سبب صوري، وإما بإرشاد مرشد كامل قد وصل إلى غاية الغايات، فإذا لم يساعده شيء من ذلك، بقي سكران، ووقع فيما وقع كما ثقل عن بعض أهل الوله من السلف.


الصفحة التالية
Icon