وذهب بعضهم : إلى أنه حقيقة، وأن الله تعالى مكون الأشياء بهذه الكلمة، فيقول بكلامه الأزلي لا بالكلام الحادث الذي هو المركب من الأصوات والحروف كن ؛ أي : احدث فيكون ؛ أي : فيحدث، ولما لم يتعلق خطاب التكوين بالفهم، واشتمل على أعظم الفوائد، وهو الوجود جاز تعلقه بالمعدوم.
وفي "كشف الأسرار" : فيكون مرة واحدة لا يثنى قوله.
وفي "التكملة" قوله : كن لا يخلو إما أن يكون قبل وجود المأمور، أو بعد وجوده، فإن قيل : قبل وجوده أدى ذلك إلى مخاطبة المعدوم، ولا يصح في العقل، وإن قيل : بعد وجوده أدى ذلك إلى إبطال معنى : كن ؛ لأن المأمور إذا كان موجوداً قبل الأمر، فلا معنى للأمر بالكون.
والجواب : أن الأمر مقارن للمأمور لا يتقدم ولا يتأخر عنه، فمع قوله : كن، يوجد المأمور، وهذه كمسألة الحركة والسكون في الجوهر، فإنه إذا قدرنا جوهراً ساكناً بمحل، ثم انتقل إلى محل آخر، فإنما انتقل بحركة، فلا تخلو الحركة من أن تطرأ عليه في المحل الأول، أو في الثاني، فإن قيل في الأول، فقد اجتمعت مع السكون، وإن قيل في الثاني، فقد انتقل بغير حركة، وإن قيل : لم تطرأ في هذا، ولا في هذا فقد طرأت عليه في غير محل، وكل هذا محال.
والجواب : أن الحركة هي معنى خصصه بالمحل الثاني، فنفس إخلائه للمحل الأول، هي نفس شغله للمحل الثاني.
واعلم أن الله تعالى أنزل الحروف الثمانية والعشرين، وجعل حقائقها الثمانية والعشرين منزلاً لا على ما فصل عند قوله تعالى :﴿رَفِيعُ الدَّرَجَـاتِ﴾، وجعل مفاصل اليدين أيضاً ثمانية وعشرين.
أربعة عشر في يد واحدة وأخرى في أخرى على أن يكون لكل أصبع ثلاثة مفاصل إلا الإبهام وجعل كل أصبع مظهر الأصل من الأصول الخمسة، فالإبهام مظهر القدرة والمسبحة مظهر الحياة والوسطى مظهر العلم، والبنصر مظهر الإرادة، والخنصر مظهر القول، ولما كان العلم أعم حيطة جعل متوسطاً بين الأصلين اللذين في يمينه، وهي الحياة والقدرة، وبين الأصلين اللذين في يساره، وهي الإرادة والقول، وإنما سقط عن أصل القدرة المفصل الثالث ؛ لأن كل واحد من الأربعة عام التعلق بخلاف القدرة ؛ فإنها محجورة الحكم غير مطلقة ؛ لأنه لا يتعلق حكمها إلا بالممكن، فلم يعم نفوذه، ولعدم عموم حكم القدرة جعل مظهرها الذي هو الإبهام ذا مفصلين، ولكون أمر القدرة مبهماً وكيفية تعلقها بالمقدور شيئاً غامضاً سمي المظهر بالإبهام، فلا يجوز البحث عن كيفية تعلق القدرة بالمقدور، كما لا يجوز البحث عن كيفية وجود الباري، وعن كيفية العذاب بعد الموت، ونحو ذلك، مما هو من الغوامض.
قال المولى الجامي في الإرادة والقدرة :
جزء : ٨ رقم الصفحة : ١٤٨
فعلهايى كه از همه اشيا
نوبنو درجهان شود بيدا
كرارادى بود جو فعل بشر
ور طبيعي بود جوميل بشر
منبعث جمله از مشيت اوست
مبتنى بر كمال حكمت اوست
٢٠٩
نخلد بى ارادتش خارى
نكساد بى مشيتش تارى
في المثل كرجهانيان خواهند
كه سرمويى از جهان كاهند
كر نباشد جنان ارادت او
نتوان كاستن سريك مو
ور همه در مقام آن آيند
كر برآن دره بيفزايند
ندهد بى ارادت او سود
نتوانند ذره افزود
بعد ازان قدرتش بود كامل
مر مرادات را همه شامل
اثر آن بهر عدم كه رسيد
رخت باخطة وجود كشيد
وحقيقة الإحياء والإماتة ترجع إلى الإيجاد، ولكن الوجود إذا كان هو الحياة سمي فعله إحياء، وإذا كان هو الموت سمي فعله إماتة، ولا خالق للموت والحياة إلا الله، ولا مميت ولا محيي إلا الله تعالى، فهو خالق الحياة ومعطيها لكل من شاء حياته على وجه يريده ومديمها، لمن أراد دوامها له كما شاء بسبب، وبلا سبب، وكذا خالق الموت ومسلطة على من شاء من الأحياء متى شاء، وكيف شاء بسبب، وبلا سبب، ومن عرف أنه المحيي المميت لم يهتم بحياة، ولا موت، بل يكون مفوضاً مستسلماً في جميع أحواله لمن بيده الحياة والموت، كما قال إبراهيم عليه السلام :﴿الَّذِى خَلَقَنِى فَهُوَ يَهْدِينِ﴾ (الشعراء : ٧٨) الآية.
وخاصية المحيي وجود الألفة، فمن خاف الفراق، أو الحبس، فليقرأه على جسده عدده.
وخاصية الاسم المميت أن يكثر منه المسرف الذي لم تطاوعه نفسه على الطاعة، فإنها تفعلها عن أوصافها المانعة عن القيام بأمر الله تعالى، ثم إن الماء مظهر الاسم المحيي، والتراب مظهر الاسم المميت، وهكذا الموجودات مع أسماء الله تعالى.
﴿أَلَمْ تَرَ﴾ :(آيانمى نكرى).
﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَـادِلُونَ فِى﴾ في دفعها وإبطالها.
﴿أَنَّى يُصْرَفُونَ﴾ ؛ أي : انظر يا محمد إلى هؤلاء المكابرين المجادلين في آياته تعالى الواضحة الموجبة للإيمان بها الزاجرة عن الجدال فيها، وتعجب من أحوالهم الشنيعة وآرائهم الركيكة كيف يصرفون عن تلك الآيات القرآنية، والتصديق بها إلى تكذيبها مع تعاضد الدواعي إلى الإقبال عليها بالإيمان، وانتفاء الصوارف عنها بالكلية.