وأما إيمان اليأس بالياء المثناة التحتية، وهو الإيمان بعد مشاهدة أحوال الآخرة، ولا تكون إلا عند الغرغرة ووقت نزع الروح من الجسد، ففي كتاب "الفتاوى" : أنه غير مقبول بخلاف توبة اليأس فإنها مقبولة على المختار على ما في "هداية المهديين" ؛ لأن الكافر أجنبي غير عارف بالله وابتدأ إيماناً، والفاسق عارف وحاله حال البقاء، والبقاء أسهل من الابتداء.
فمثل إيمان اليأس شجر غرس في وقت لا يمكن فيه النماء، ومثل توبة اليأس شجر نابت أثمر في الشتاء عند ملاءمة الهواء.
والدليل على قبول التوبة مطلقاً قوله تعالى :﴿وَهُوَ الَّذِى يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ﴾ (الشورى : ٢٥)، هكذا قالوا، وهو يخالف قوله تعالى :﴿وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّاَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّى تُبْتُ الْاَانَ﴾ (النساء : ١٨).
قال البغوي في "تفسيره" : لا تقبل توبة عاصصٍ ولا إيمان كافر إذا تيقن بالموت.
انتهى.
ومراده عند الإشراف على الموت والصيرورة إلى حال الغرغرة، وإلا فقد قال المحققون : قرب الموت لا يمنع من قبول التوبة، بل المانع من قبولها مشاهدة الأحوال التي عندها يحصل العلم بالله تعالى على سبيل الاضطرار على ما في "حواشي ابن الشيخ" في سورة النساء.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ١٤٨
وقرب الموت لا ينافي التيقن بالموت بظهور أسبابه وإماراته دل عليه قوله تعالى :﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ﴾ (البقرة : ١٨٠) الآية ؛ أي : حضور أماراته وظهور آثاره من العلل والأمراض إذ لا اقتدار على الوصية عند حضور نفس الموت.
ومن هذا القبيل ما في "روضة الأخبار" من أنه قال عمرو بن العاص رضي الله عنه عند احتضاره لابنه عبد الله : يا بنيّ من يأخذ المال بما فيه من التبعات، فقال : من جدع الله أنفه، ثم قال : احملوه إلى بيت مال المسلمين، ثم دعا بالغل، والقيد فلبسهما، ثم قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول :"إن التوبة مبسوطة ما لم يغرغر ابن آدم بنفسه".
ثم استقبل القبلة، فقال :"اللهم أمرتنا فعصينا ونهيتنا فارتكبنا هذا مقام العائذ بك، فإن تعف، فأهل العفو أنت وإن تعاقب فبما قدمت يداي لاإله إلا أنت سبحانك، إني كنت من الظالمين".
فمات وهو مغلول مقيد، فبلغ الحسن بن علي رضي الله عنهما، فقال : استسلم حين أيقن بالموت.
ولعله ينفعه.
انتهى.
وأتي بصيغة الترجي ؛
٢٢٣
لأنه لا قطع، وهو من باب الإرشاد أيضاً على ما حكي : أنه لما مات عثمان بن مظعون رضي الله عنه، وهو أخوه عليه السلام من الرضاعة وغسل وكفن قبل النبي عليه السلام بين عينيه وبكى.
وقالت امرأته : خولة بنت حكيم رضي الله عنها : طبت هنيئاً لك الجنة يا أبا السائب، فنظر إليها النبي عليه السلام نظرة غضب وقال :"وما يدريك"، فقالت : يا رسول مارسك وصاحبك، فقال عليه السلام :"وما أدري ما يفعل بي"، فاشفق الناس على عثمان رضي الله عنه.
ثم إن السبب في عدم قبول التوبة عند الاحتضار أنا مكلفون بالإيمان الغيبي لقوله تعالى :﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾ (البقرة : ٣).
وفي ذلك الوقت يكون الغيب عياناً فلا تصح.
وأيضاً لا شبهة في أن كل مؤمن عاصصٍ يندم عند الإشراف على الموت.
وقد ورد :"إن التائب من الذنب كمن لا ذنب له"، فيلزم منه أن لا يدخل أحد من المؤمنين النار، وقد ثبت أن بعضهم يدخلونها.
وأما قولهم : إن من شرط التوبة عن الذنب العزم على أن لا يعود إليه.
وذلك إنما يتحقق مع ظن التائب التمكن من العود، فيخالفه ما قال الآمدي أنه إذا أشرف على الموت ؛ أي : قرب من الاحتضار، فندم على فعله صحت توبته بإجماع السلف، وإن لم يتصور منه العزم على ترك الفعل لعدم تصور الفعل، فهو مستثنى من عموم معنى التوبة، وهو الندم على الماضي والترك في الحال، والعزم على أن لا يعود في المستقبل كما في "شرح العقائد" للمولى رمضان.
وأما إطلاق الآية التي هي قوله تعالى :﴿وَهُوَ الَّذِى يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ﴾ (الشورى : ٢٥)، فمقيد بالآية السابقة، وهي قوله :﴿وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ﴾ (النساء : ١٨)، الآية.
وبقوله عليه السلام :"إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر".
أخرجه الترمذي من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وهو يشمل توبة المؤمن والكافر، فالإيمان وكذا التوبة لا يعتبر حالة اليأس بالمثناة بخلافهما قبل هذه الحالة، ولو بقليل من الزمان رحمة من الله تعالى لعباده المذنبين.
فمعنى الاحتضار هو وقت الغرغرة، وقرب مفارقة الروح من البدن لا حضور أوائل الموت، وظهور مقدماته مطلقاً، وقس عليه حال البأس بالموحدة.
بقي أنه لما قتل علي رضي الله عنه : من قال : لا إله إلا الله.
قال عليه السلام :"لم قتلته يا علي".
قال علي : علمت أنه ما قال بقلبه، فقال عليه السلام :"هل شققت قلبه"، فهذا يدل على أن إيمان المضطر والمكره صحيح مقبول، ولعله عليه السلام : اطلع بنور النبوة على إيمان ذلك المقتول بخصوصه، فقال في حقه، ما قال.
والعلم عند الله المتعال هذا.
وذهب الإمام مالك إلى أن الإيمان عند اليأس بالمثناة مقبول صحيح، فقالوا : إن الإيمان عند التيقن صحيح عنده لو لم يرد الدليل ذلك الإيمان فإيمان فرعون مثلاً مردود عنده بدليل قوله :﴿ءَآلَْاانَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ﴾ (يونس : ٩١)، الآية.
وإنما لم يرده مالك مطلقاً لعدم النصوص الدالة عنده على عدم صحة الإيمان في تلك الساعة.
هكذا قالوا، وفيه ضعف تام ظاهر وإسناده إلى مالك لا يخلو عن سماحة، كما لا يخفى هذا ما تيسر لي في هذا المقام من الجمع والترتيب والترجيح والتهذيب، ثم أسأل الله لي، ولكم أن يشد عضدنا بقوة الإيمان ويحلينا بحلية العيان والإيقان.
ويختم لنا بالخير والحسنى ويبشرنا بالرضوان والزلفى ويجعلنا من الطائرين إلى جنابه والنازلين عند بابه واللائقين بخطابه بحرمة الحواميم وما اشتملت عليه من السر العظيم.
٢٢٤
تمت ﴿حم﴾ المؤمن يوم السبت الثامن والعشرين من ذي القعدة الشريف من شهور سنة اثنتي عشرة ومائة وألف.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ١٤٨