رأى بعض الأولياء مناماً في الليلة التي هلك فيها رجال بغداد على يد هولاكو خان أن جبال العراقين ذهبت من وجه الأرض بهبوب الرياح المظلمة على بغداد، فوصل الخبر أن هولاكو خان قد دخل مدينة بغداد، وقتل من الرجال الأولياء والعلماء والصلحاء والأمراء، وسائر الناس ما لا يحصى عدداً، ولذا قال بعضهم : رواسي الجبال أوتاد الأرض في الصورة والأولياء، أوتاد الأرض في الحقيقة، فكما أن الجبال مشرفة على سائر الأماكن، كذلك الأولياء مشرفون على سائر الخلائق دل عليه قوله :﴿مِن فَوْقِهَا﴾ يعني : من فوق العامة، فكما أن جبل قاف مشرف على كل جبل كذلك القطب الغوث الأعظم مشرف على كل ولي، وبه قوام الأولياء والرواسي دونه.
ومن خواص الأولياء من يقال لهم الأوتاد، وهم أربعة : واحد يحفظ المشرق بإذن الله تعالى، ويقال له : عبد الحي، وواحد يحفظ المغرب، ويقال له : عبد العليم.
وواحد يحفظ الشمال، ويقال له : عبد المريد.
وواحد يحفظ الجنوب، ويقال له : عبد القادر.
وكان الشافعي رحمه الله في زمانه من الأوتاد الأربعة على ما نصّ عليه الشيخ الأكبر قدس سره الأطهر في "الفتوحات".
وببركات الأولياء يأتي المطر من السماء ويخرج النبات من الأرض وبدعائهم يندفع البلاء عن الخلق، وأن حياتهم ومماتهم سواء، فإنهم ماتوا عن أوصاف وجودهم بالاختيار قبل الموت بالاضطرار فهم أحياء على كل حال ولذا قيل :
مشو بمرك زامداد اهل دل نوميد
كه خواب مردم آكاه عين بيداريست
﴿وَبَـارَكَ فِيهَا﴾ ؛ أي : قدر بأن يكثر خير الأرض بأن يخلق أنواع الحيوان التي من جملتها الإنسان وأصناف النبات التي منها معايشهم ببذر وغيره.
﴿وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا﴾ : القوت من الرزق ما يمسك الرمق ويقوم به بدن الإنسان، يقال : قاته يقوته إذا أطعمه قوته، والمقيت : المقتدر الذي يعطي كل أحد قوته.
ومن "بلاغات الزمخشري" : إذا حصلتك ياقوت هان عليّ الدر والياقوت.
والمعنى : حكم تعالى بالفعل بأن يوجد فيما سيأتي لأهل الأرض من الأنواع المختلفة أقواتها المناسبة لها على مقدار معين تقتضيه الحكمة.
فالمراد : بأقوات الأرض : أرزاق سكانها بمعنى قدّر أقوات أهلها على حذف المضاف، بأن عين لكل نوع ما يصلحه ويعيش به.
(ويا براى اهل هر موضعى از زمين روزى مقدر كرد جون كندم وجو وبرنج وخرما وكوشت وامثال آن هريك ازينها غالب اقوات بلداست).
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٢٢٥
وقال بعض العارفين : كل خلق لهم عنده تعالى رزق
٢٣٣
مخصوص، فرزق الروحانيين المشاهدة ورزق الربانيين المكاشفة ورزق الصادقين المعرفة ورزق العارفين التوحيد ورزق الأرواح الروح ورزق الأشباح الأكل والشرب.
وهذه الأقوات تظهر لهم من الحق في هذه الأرض التي خلقت معبداً للمطيعين ومرقداً للغافلين :
جلوة تقدير درزندان كل دارد مراد
ورنه بالا تربود از نه فلك جولان من
﴿فِى أَرْبَعَةِ﴾ أيام من أيام الآخرة، أو من أيام الدنيا كما سبق، وهو متعلق بحصول الأمور المذكورة، لا بتقديرها ؛ أي : قدر حصولها في يومين يوم الثلاثاء ويوم الأربعاء على ما سيأتي.
وإنما قيل : في أربعة أيام ؛ أي : تتمة أربعة أيام بالفذلكة، ومجموع العدد ؛ لأنه باليومين السابقين يكون أربعة أيام ؛ كأنه قيل : نصب الراسيات، وتقدير الأقوات وتكثير الخيرات في يومين آخرين بعد خلق الأرض في يومين، وإنما لم يحمل الكلام على ظاهره، بأن يجعل خلق الأرض في يومين، وما فيها في أربعة أيام ؛ لأنه قد ثبت أن خلق السماوات في يومين، فيلزم أن يكون خلق المجموع في ثمانية أيام، وليس كذلك ؛ فإنه في ستة أيام على ما تكرر ذكره في القرآن.
وذكر في "البرهان" : إنما لم يذكر اليومين على الانفراد لدقيقة لا يهتدي إليها كل أحد، وهي أن قوله :﴿خَلَقَ الارْضَ فِى يَوْمَيْنِ﴾ صلة الذي ﴿وَتَجْعَلُونَ لَه أَندَادًا﴾ عطف على تكفرون.
﴿وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِىَ﴾ عطف على قوله :﴿خَلَقَ الارْضَ﴾.
وهذا ممتنع في الإعراب لا يجوز في الكلام، وهو في الشعر من أقبح الضرورات لا يجوز أن يقول : جاءني الذي يكتب، وجلس ويقرأ ؛ لأنه لا يحال بين صلة الموصول، وما يعطف عليه بأجنبي من الصلة، فإذا امتنع هذا لم يكن بد من إضمار فعل يصح الكلام به ومعه، فتضمن خلق الأرض بعد قوله ذلك رب العالمين خلق الأرض، وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام ليقع هذا كله في أربعة أيام.
انتهى.


الصفحة التالية
Icon