وقال غيره :﴿وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِىَ﴾ : عطف على خلق، وحديث لزوم الفصل بجملتين خارجتين عن خيز الصلة مدفوع بأن الأولى متحدة بقوله تعالى :﴿تَكْفُرُونِ﴾، فهو بمنزلة الإعادة له، والثانية : اعتراضية مقررة لمضمون الكلام بمنزلة التأكيد، فالفصل بهما كلا فصل، فالوجه في الجميع دون الانفراد ما سبق.
﴿سَوَآءً﴾ مصدر مؤكد لمضمر هو صفة لأيام ؛ أي : استوت تلك الأيام سواء ؛ أي : استواء يعني في أربعة أيام كاملة مستوية بلا زيادة ولا نقصان.
﴿لِّلسَّآاـاِلِينَ﴾ متعلق بمحذوف تقديره هذا الحصر في الأربعة للسائلين عن مدة خلق الأرض وما فيها القائلين في كم خلقت الأرض، وما فيها فالسؤال استفتائي، واللام للبيان أو بقدّر.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٢٢٥
قال في "بحر العلوم" : وهو الظاهر ؛ أي : قدر فيها أقواتها لأجل السائلين ؛ أي : الطالبين لها المحتاجين إليها من المقتاتين فإن أهل الأرض كلهم طالبون للقوت محتاجون إليه، فالسؤال استعطائي واللام للأجل.
قال ابن عباس رضي الله عنهما : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأنا رديفه يقول :"خلق الله الأرواح قبل الأجسام بأربعة آلاف سنة وخلق الأرزاق قبل الأرواح بأربعة آلاف سنة سواء لمن سأل، ولمن لم يسأل وأنا من الذين لم يسألوا الله الرزق ومن سأل فهو جهل".
وهذا لا يزيد الرزق بالسؤال ولا ينقص، وفيه تأديب لمن لم يرض بقسمته :
كشاد عقده روزى بدست تقديراست
مكن زرزق شكايت از ين وآن زنهار
٢٣٤
وفي الحديث :"من جاع أو احتاج فكتمه عن الناس كان حقاً على الله أن يفتح له رزق سنة من حلال".
فالعمدة الصبر وترك الشكاية والتوكل والاشتغال بالذكر.
قال أنس رضي الله عنه : خرجت مع النبي عليه السلام إلى شعب في المدينة ومعي ماء لطهوره، فدخل النبي عليه السلام وادياً، ثم رفع رأسه وأومأ إليّ بيده أن أقبل فأتيته، فدخلت، فإذا بطير على شجرة، وهو يضرب بمنقاره، فقال عليه السلام :"هل تدري ما يقول".
قلت : لا.
قال :"يقول اللهم أنت العدل الذي لا تجور حجبت عني بصري، وقد جعت فأطعمني" فأقبلت جرادة، فدخلت بين منقاره، ثم جعل يضرب منقاره بمنقاره، فقال عليه السلام :"أتدري ما يقول" قلت : لا فقال :"من توكل على الله كفاه ومن ذكره لا ينساه" فقال عليه السلام :"يا أنس من ذا الذي يهتم للرزق بعد ذلك اليوم الرزق أشد طلباً لصاحبه من صاحبه له".
قال الصائب :
رزق اكربر آدمى عاشق نمى باشد جرا
از زمين كندم كريبان جاك مى آيدجرا
﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَآءِ﴾ شروع في بيان كيفية التكوين إثر بيان كيفية التقدير، ولعل تخصيص البيان بما يتعلق بالأرض وأهلها لما أن بيان اعتنائه تعالى بأمر المخاطبين، وترتب مبادي معايشهم قبل خلقهم مما يحملهم على الإيمان ويزجرهم عن الكفر والطغيان.
وبيان ثم يجيء بعد تمام الآيات، والاستواء ضد الاعوجاج من قولهم استوى العود إذا اعتدل واستقام حمل في هذا المقام على معنى القصد والتوجه ؛ لأن حقيقته من صفات الأجسام وخواصها، والله تعالى متعال عنها.
والمعنى : ثم قصد نحو السماء بإرادته ومشيئته قصداً سوياً وتوجه إليه توجهاً لا يلوي على غيره ؛ أي : من غير إرادة خلق شيء آخر يضاهي خلقها، يقال : استوى إلى مكان كذا كالسهم المرسل إذا توجه إليه توجهاً مستوياً من غير أن يلوي على غيره.
وفي ثم إظهار كمال العناية بإبداع إذا توجه إليه توجهاً مستوياً من غير أن يلوي على غيره.
ومن ثم إظهار كمال العناية بإبداع العلويات.
﴿وَهِىَ دُخَانٌ﴾ : الواو للحال، والضمير إلى السماء ؛ لأنها من المؤنثات السماعية والدخان أجزاء أرضية لطيفة ترتفع في الهواء مع الحرارة.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٢٢٥
وفي "المفردات" : الدخان العثان المستصحب للهب والبخار أجزاء مائية رطبة ترتفع في الهواء مع الشعاعات الراجعة من سطوح المياه.
والمعنى : والحال أن السماء دخان ؛ أي : أمر ظلماني يعد كالدخان، وهو المرتفع من النار، فهو من قبيل التشبيه البليغ وإطلاق السماء على الدخان باعتبار المآل.
فال الراغب قوله تعالى :﴿وَهِىَ دُخَانٌ﴾ ؛ أي : هي مثل الدخان إشارة إلى أنها لا تماسك بها انتهى.
عبر بالدخان عن مادة السماء يعني : الهيولى والصورة الجسمية، أو عن الأجزاء المتصغرة التي ركبت هي منها، يعني : الأجزاء التي لا تتجزأ وإظلامها إبهامها قبل حلول المنور كما في "الحواشي السعدية"، ولما كانت أول حدوثها مظلمة صحت تسميتها بالدخان تشبيهاً لها به من حيث أنها أجزاء متفرقة غير متواصلة عديمة النور كالدخان، فإنه ليس له صورة تحفظ تركيبه كما في "حواشي ابن الشيخ".
وقال بعضهم : وهي دخان ؛ أي : دخان مرتفع من الماء يعني : السماء بخار الماء كهيئة الدخان.
وبالفارسية :(وحال آنكه دخان بود يعني بخار آب بهيآت دخان).
كما في "تفسير الكاشفي".


الصفحة التالية
Icon