يروي : أن أول ما خلق الله العرش على الماء، والماء ذاب من جوهرة خضراء، أو بيضاء فإذا بها ثم ألقى فيها ناراً، فصار الماء يقذف بالغثاء، فخلق الأرض من الغثاء، ثم استوى إلى الدخان الذي صار من الماء،
٢٣٥
فسمكه سماء ثم بسط الأرض، فكان خلق الأرض قبل خلق السماء، وبسط الأرض وإرساء الجبال وتقدير الأرزاق وخلق الأشجار والدواب والأنهار بعد خلق السماء لذلك قال الله تعالى :﴿وَالارْضَ بَعْدَ ذَالِكَ دَحَـاـاهَآ﴾ (النازعات : ٣٠).
هذا جواب عبد الله بن عباس رضي الله عنهما لنافع بن الأزرق الحروري :
كفى را منبسط سازدكه اين فرشيست بس لايق
بخاريرا برافرازدكه اين سقفيست بس زيبا
ازان سقف معلق حسن تصويرش بود ظاهر
بدين فرش مطبق لطف تدبيرش بودبيدا
﴿فَقَالَ لَهَا﴾ : أي للسماء، ﴿وَلِلارْضِ﴾ التي قدر وجودها ووجود ما فيها.
﴿ائْتِيَا﴾ ؛ أي : كونا واحدثا على وجه معين، وفي وقت مقدر لكل منكما هو عبارة عن تعلق إرادته تعالى بوجودهما تعلقاً فعلياً بطريق التمثيل بعد تقدير أمرهما من غير أن يكون هناك آمر ومأمور كما في قوله : كن بأن شبه تأثير قدرته فيهما وتأثرهما عنها بأمر آمر نافذ الحكم يتوجه نحو المأمور المطيع، فيتمثل أمره، فعبر عن الحالة المشبهة بما يعبر به عن الحالة المشبهة بها.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٢٢٥
﴿طَوْعًا أَوْ كَرْهًا﴾ مصدران واقعان في موقع الحال.
والطوع : الانقياد ويضاده الكره ؛ أي : حال كونكما طائعتين منقادتين أو كارهتين ؛ أي : شئتما ذلك أو أبيتما، وهو تمثيل لتحتم تأثير قدرته تعالى فيهما، واستحالة امتناعهما من ذلك لا إثبات الطوع والكره لهما ؛ لأنهما من أوصاف العقلاء ذوي الإرادة والاختيار والأرض والسماء من قبيل الجمادات العديمة الإرادة والاختيار.
﴿قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآاـاِعِينَ﴾ ؛ أي : منقادين، وهو تمثيل لكمال تأثرهما بالذات عن القدرة الربانية، وحصولهما كما أمرتا به وتصوير لكون وجودهما كما هما عليه جارياً على مقتضى الحكمة البالغة، فإن الطوع منبىء عن ذلك، والكره موهم لخلافه.
فإن قلت : إنما قيل : طائعين على وزن جمع العقلاء الذكور لا طائعتين حملاً على اللفظ، أو طائعات حملاً على المعنى ؛ لأنها سماوات وأرضون.
قلت : باعتبار كونهما في معرض الخطاب والجواب، فلما وصفتا بأوصاف العقلاء عوملتا معاملة العقلاء وجمعتا لتعدد مدلولهما ونظيره ساجدين في قوله تعالى حكاية عن يوسف عليه السلام :﴿إِنِّى رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِى سَـاجِدِينَ﴾ (يوسف : ٤).
وفي "التأويلات النجمية" : يشير إلى أنه بالقدرة الكاملة أنطق السماء والأرض المعدومة بعد أن أسمعها خطاب ائتيا طوعاً أو كرهاً، لتجيبا وقالتا : أتينا طائعين، وإنما ذكرهما بلفظ التأنيث في البداية ؛ لأنهما كانتا معدومتين مؤنثتين، وإنما ذكرهما في النهاية بلفظ التذكير ؛ لأنه أحياهما وأعقلهما، وهما في العدم، فأجابا بقولهما : أتينا طائعين جواب العقلاء.
وفي حديث :"أن موسى عليه السلام قال : يا رب لو أن السماوات والأرض حين قلت لهما : ائتيا طوعاً أو كرهاً عصتاك ما كانت صانعاً بهما.
قال : كنت آمر دابة من دوابي فتبتلعهما.
قال : يا رب، وأين تلك الدابة؟.
قال : في مرج من مروجي.
قال : وأين ذلك المرج؟ قال : في علم من علمي".
قال بعضهم : أجاب ونطق من الأرض أولاً موضع الكعبة، ومن السماء ما بحذائها، فجعل الله تعالى لها حرمة على سائر الأرض حتى كانت كعبة
٢٣٦
الإسلام.
وقبلة الأنام.
ويقال : أجابه من الأرض أولاً الأردن من بلاد الشام، فسمي لسان الأرض، وأما أول بلدة بنيت على وجه الأرض، فهي بلخ بخراسان بناها كيومرث، ثم بنى الكوفة ابنه هوسنك وكيومرث من أولاد مهلائيل بن قينان بن أنوش بن شيث.
كان عمره سبعمائة سنة.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٢٢٥
وقال ابن عباس رضي الله عنهما : أصل طينة النبي عليه السلام من سرة الأرض بمكة، فهذا يشعر بأنه ما أجاب من الأرض إلا ذرة المصطفى، وعنصر طينة المجتبى عليه السلام، فلهذا دحيت الأرض من تحت الكعبة، وكانت أم القرى، فهو عليه السلام أصل الكل في التكوين روحاً وجسداً.
والكائنات بأسرها تبع له، ولهذا يقال : النبي الأمي ؛ لأنه أم الكل وأسه.
فإن قلت : ورد في الخبر الصحيح :"تربة كل شخص مدفنه"، فكان يقتضي أن يكون مدفنه عليه السلام بمكة حيث كانت تربته منها.


الصفحة التالية
Icon