قلت : لما تموج الماء رمى ذلك العنصر الشريف والزبد اللطيف، والجوهر المنيف، فوقع جوهره عليه السلام إلى ما يحاذي تربته بالمدينة المنورة، وفي تاريخ مكة أن عنصره الشريف كان في محله يضيء إلى وقت الطوفان، فرماه الموج في الطوفان إلى محل قبره الشريف لحكمة إلهية وغيرة ربانية يعرفها أهل الله تعالى، ولذا لا خلاف بين علماء الأمة في أن ذلك المشهد الأعظم، والمرقد الأكرم أفضل من جميع الأكوان من العرش والجنان، فذهب الإمام مالك واستشهد بذلك.
وقال : لا أعرف أكبر فضل لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما من أنهما خلقا من طينة رسول الله عليه السلام لقرب قبرهما من حضرة الروضة المقدسة المفضلة على الأكوان بأسرها.
وكان عليه السلام مكياً مدنياً وحنينه إلى مكة لتلك المناسبة وتربته، وبالمدينة الحكمة.
قال الإمام السهروردي رحمه الله : لما قبض عزرائيل عليه السلام قبضة الأرض، وكان إبليس قد وطىء الأرض بقدميه، فصار بعض الأرض بين قدميه وبعضها موضع أقدامه، فخلقت النفوس الأمارة من مماس قدم إبليس، فصارت النفوس الأمارة مأوى الشرور، وبعض الأرض لم يصل إليها قدم إبليس، فمن تلك التربة أصل طينة الأنبياء والأولياء عليهم السلام، وكانت طينة رسول الله موضع نظر الله من قبضة عزرائيل لم تمسها قدم إبليس، فلم يصبه حظ جهل النفس الأمارة، بل صار منزوع الجهل موفراً حظه من العلم فبعثه الله بالعلم والهدى.
وانتقل من قلبه الشريف إلى القلوب الشريفة، ومن نفسه القدسية المطمئنة، فوقعت المناسبة في أصل طهارة الطينة، فكل من كان أقرب مناسبة في ذلك الأصل كان أوفر حظاً من القبول والتسليم والكمال الذاتي، ثم بعض من كان أقرب مناسبة إلى النبي عليه السلام في الطهارة الذاتية، وأوفر حظاً من ميراثه اللدني قد أبعد في أقاصي الدنيا مسكناً ومدفناً، وذلك لا ينافي قربه المعنوي، فإن إبعاده في الأرض كإبعاد النبي عليه السلام من مكة إلى المدينة بحسب المصلحة.
قال الحافظ :
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٢٢٥
كرجه دوريم بياد تو قدح مينو شيم
بعد منزل نبود در سفر روحانى
﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَآءِ وَهِىَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلارْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآاـاِعِينَ * فَقَضَـاـاهُنَّ سَبْعَ سَمَـاوَاتٍ فِى يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِى كُلِّ سَمَآءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَآءَ الدُّنْيَا بِمَصَـابِيحَ وَحِفْظًا ذَالِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَـاعِقَةً مِّثْلَ صَـاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ﴾.
﴿فَقَضَـاـاهُنَّ سَبْعَ سَمَـاوَاتٍ﴾ تفسير وتفصيل لتكوين السماء المجمل المعبر عنه بالأمر وجوابه لا أنه فعل مرتب على تكوينها، والضمير للسماء على المعنى، فإنه في معنى الجمع لتعدد مدلوله، فسبع سماوات حال، أو هو ؛ أي : الضمير مبهم يفسره سبع سماوات كضمير ربه رجلاً، فسبع سماوات تمييز.
والمعنى : خلقهن حال كونهن سبع سماوات، أو من جهة سبع سماوات خلقاً
٢٣٧
إبداعياً ؛ أي : على طريق الاختراع لا على مثال، وأتقن أمرهم بأن لا يكون فيهن خلل ونقصان حسبما تقضيه الحكمة.
وفي "التأويلات النجمية" يشير إلى أن سماء القلب سبعة أطوار كما قال تعالى :﴿وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا﴾ (نوح : ١٤)، فالطور الأول من القلب يسمى الكركر، وهو محل الوسوسة.
والثاني : الشغاف، وهو مثوى المحبة كما قال تعالى :﴿قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا﴾ (يوسف : ٣٠)، والسابع : حب القلب، وهو مورد التجلي، وموضع الكشوف، مركز الأسرار، ومهبط الأنوار ومهبط الأنوار.
﴿فِى يَوْمَيْنِ﴾ في وقت مقدر بيومين، وهما يوم الخميس ويوم الجمعة خلق السماوات يوم الخميس وما فيها من الشمس والقمر والنجوم في يوم الجمعة، وقد بين مقدار زمان خلق الأرض وخلق ما فيها عند بيان تقديرهما، فكان خلق الكل في ستة أيام حسبما نص عليه في مواضع من التنزيل.
﴿وَأَوْحَى فِى كُلِّ سَمَآءٍ أَمْرَهَا﴾ : عطف على فقضاهن.
والإيحاء : عبارة عن التكوين كالأمر مقيد بما قيد به المعطوف عليه في الوقت.
قال الراغب : يقال للإبداع أمر، وقد حمل على ذلك في هذه الآية.
والمعنى : خلق في كل منها ما فيها من الملائكة والنيرات، وغير ذلك مما لا يعلمه إلا الله، وأظهر ما أراده كما قال قتادة والسديّ.
أو أوحى ؛ أي : ألقى إلى أهل كل منها أوامره وكلفهم ما يليق بهم من التكاليف، فمنهم قيام لا يقعدون إلى قيام الساعة، ومنهم سجود لا يرفعون رؤوسهم أبداً إلى غير ذلك، فهو بمعناه ومطلق عن القيد المذكور والآمر هو الله والمأمور أهل كل سماء، وأضيف الأمر إلى نفس السماء للملابسة ؛ لأنه إذا كان مختصاً بالسماء، فهو أيضاً بواسطة أهلها.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٢٢٥


الصفحة التالية
Icon