﴿وَزَيَّنَّا السَّمَآءَ الدُّنْيَا بِمَصَـابِيحَ﴾ التفات إلى نون العظمة لإبراز مزيد العناية بالأمر ؛ أي : بكواكب تضيء في الليل كالمصابيح ؛ فإنها ترى كلها متلألئة على السماء الدنيا ؛ كأنها فيها.
بالفارسية :(وبياراستيم آسمان نزديكتر بجراغها يعنى ستاركان كه جوجراغ درخشان باشند).
فالمراد بالمصابيح جميع الكواكب النيرة التي خلق الله في السماوات من الثوابت والسيارات، وليس كلها في السماء الدنيا، وهي التي تدنو وتقرب من أهل الأرض، فإن كل واحد من السيارات السبع في فلك، والثوابت مركوزة في الفلك الثامن إلا أن كونها مركوزة فيما فوق السماء الدنيا لا ينافي كونها زينة لها ؛ لأنا نرى جميع الكواكب كالسرج الموقدة فيها، وقيل : إن في كل سماء كواكب تضيء.
وقيل : بل الكواكب مختصة بالسماء الدنيا.
ويقال : زين السماء بأنوار الكروبيين كما زين الأرض بالأنبياء والأولياء.
وزين قلوب العارفين بأنوار المعرفة، وجعل فيها مصابيح الهداية وضياء التوحيد وزين جوارح المؤمنين بالخدمة وزين الجنة بنور مناجاة العارفين وزهرة خدمة العارفين.
نورى از بيشانى صاحب دلان در يوزه كن
شمع خودرا مى برى دل مرده زين محفل جرا
﴿وَحِفْظًا﴾ مصدر مؤكد لفعل معطوف على زينا ؛ أي : وحفظنا السماء الدنيا من الآفات، ومن المسترقة حفظاً، وهي الشياطين الذين يصعدون السماء لاستراق السمع فيرمون بشهاب صادر من نار الكواكب منفصل عنها، ولا يرجمون بالكواكب أنفسها لأنها قارة في الفلك على حالها، وما ذلك إلا كقبس يؤخذ من النار باقية بحالها لا ينتقص منها شيء، والشهاب شعلة نار ساقطة.
﴿ذَالِكَ﴾ الذي ذكر بتفاصيله.
﴿تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ﴾ المبالغ في القدرة، فله بليغ قدرة على كل مقدور، والمبالغ في العلم فله بليغ علم بكل معلوم.
قال الكاشفي :﴿ذَالِكَ﴾ :(آنجه
٢٣٨
ياد كرده از بدائع آفرينش).
﴿تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ﴾ :(آفريدن واندازه كردن غالبست كه در ملك خود بقدرت هرجه خواهد كند دانا كه هرجه سازد از روى حكمت است).
فعلى هذا التفصيل لا دلالة في الآية الكريمة على الترتيب بين إيجاد الأرض وإيجاد السماء، وإنما الترتيب بين التقدير والإيجاد، وإما على تقدير كون الخلق، وما عطف عليه من الأفعال الثلاثة على معانيها الظاهرة، فيكون خلق الأرض، وما فيها متقدماً على خلق السماء، وما فيها وعليه إطباق أكثر أهل التفسير ويؤيده قوله تعالى :﴿هُوَ الَّذِى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى الارْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَآءِ﴾ (البقرة : ٢٩).
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٢٢٥
وقيل : إن خلق جرم الأرض مقدم على خلق السماوات لكن دحوها وخلق ما فيها مؤخر لقوله تعالى :﴿وَالارْضَ بَعْدَ ذَالِكَ دَحَـاـاهَآ﴾ (النازعات : ٣٠)، ثم هذا على تقدير كون كلمة، ثم للتراخي الزماني.
وإما على تقدير كونها للتراخي الرتبي على طريق الترقي من الأدنى إلى الأعلى يفضل خلق السماوات على خلق الأرض، وما فيها كما جنح إليه الأكثرون، فلا دلالة في الآية الكريمة على الترتيب كما في الوجه الأول.
قال الشيخ النيسابوري : خلق السماء قبل خلق الأرض ليعلم أن فعله خلاف أفعال الخلق ؛ لأنه خلق أولاً السقف، ثم الأساس ورفعها على غير عمد دلالة على قدرته وكمال صنعه.
وروي : أنه تعالى خلق جرم الأرض يوم الأحد ويوم الإثنين ودحاها وخلق ما فيها يوم الثلاثاء ويوم الأربعاء، وخلق السماوات وما فيهن يوم الخميس ويوم الجمعة، وخلق آدم في آخر ساعة منه، وهي الساعة التي تقوم فيها القيامة، وسمي الجمعة لاجتماع المخلوقات وتكاملها، ولما لم يخلق الله في يوم السبت شيئاً امتنع بنوا إسرائيل من الشغل فيه كما في "فتح الرحمن".
والظاهر أنه ينبغي أن يكون المراد به أنه تعالى خلق العالم في مدة لو حصل فيها فلك وشمس وقمر، لكان مبدأ تلك المدة أول يوم الأحد وآخرها آخر يوم الجمعة كما في "حواشي ابن الشيخ"، وبه يندفع ما قال سعدي المفتي فيه إشكال لا يخفى، فإنه لا يتعين اليوم قبل خلق السماوات والشمس فضلاً عن تعينه وتسميته باسم الخميس والجمعة.
وقال ابن عطية : والظاهر من القصص في طينة آدم أن الجمعة التي خلق فيها آدم لقد تقدمتها أيام وجمع كثيرة، وأن هذه الأيام التي خلق الله فيها المخلوقات هي أول الأيام ؛ لأنه بإيجاد الأرض والسماء والشمس وجد اليوم.
وفي الحديث في خلق يوم الجمعة :"إنه اليوم الذي فرض على اليهود والنصارى فأضلته وهداكم الله تعالى" ؛ أي : أمروا بتعظيمه والتفرغ للعبادة فيه، فاختار اليهود من عند أنفسهم بدله السبت ؛ لأنهم يزعمون أنه اليوم السابع الذي استراح فيه الحق من خلق السماوات والأرض، وما فيهن من المخلوقات ؛ أي : بناء على أن أول الأسبوع الأحد، وأنه مبدأ الخلق، وهو الراجح.


الصفحة التالية
Icon