يقول الفقير : إنما عذبت عاد بريح صرصر ؛ لأنهم اغتروا بطول قاماتهم وعظم أجسادهم وزيادة قوتهم، فظنوا أن الجسم إذا كان في القوة والثقل بهذه المرتبة، فهو يثبت في مكانه ويستمسك، ولا يزيله عن مقره شيء من البلاء، فسلط الله عليهم الريح، فكانت أجسامهم كريشة في الهواء، وكان عليه السلام يجثو على ركبتيه عند هبوب الرياح، ويقول :"اللهم اجعلها رحمة ولا تجعلها عذاباً.
اللهم اجعلها لنا رياحاً ؛ أي : رحمة ولا تجعلها ريحاً ؛ أي : عذاباً وأراد به أن أكثر ما ورد في القرآن من الريح بلفظ المفرد، فهو عذاب نحو، ﴿فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا﴾ (فصلت : ١٦)، و﴿أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ﴾ (الذاريات : ٤١)، وإن جاء في الرحمة أيضاً نحو ﴿وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ﴾ (يونس : ٢٢) وكل ما جاء بلفظ الجمع على الرياح، فهو رحمة لا غير، ويقول عليه السلام ؛ أي : عند هبوب الرياح، وعند سماع الصوت والرعد والصواعق أيضاً :"اللهم لا تقتلنا بغضبك ولا تهلكنا بعذابك وعافنا قبل ذلك".
وفي الحديث :"لا تسبوا الريح فإذا رأيتم ما تكرهون، فقولوا : اللهم إنا نسألك من خير هذه الريح وخير ما فيها وخير ما أمرت به، ونعوذ بك من شر هذه الريح وشر ما فيها وشر ما أمرت به".
كما في "المصابيح" :(ريح صرصر باد نفس ازدهاست قلب ازودر اضطراب ومكرهاست.
هركه بابرجا شود در عهد دين.
بايدارش ميكند حق جون زمين).
﴿وَأَمَّا ثَمُودُ﴾ ؛ أي : قبيلة ثمود فهو غير منصرف للعلمية والتأنيث، ومن نونه وصرفه جعله اسم رجل، وهو الجد الأعلى للقبيلة.
﴿فَهَدَيْنَـاهُمْ﴾ الهداية هنا عبارة عن الدلالة على ما يوصل إلى المطلوب سواء ترتب عليها الاهتداء أم لا كما في قوله تعالى :﴿وَإِنَّكَ لَتَهْدِى إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ (الشورى : ٥٢)، وليست عبارة عن الدلالة المقيدة بكونها موصلة إلى البغية، كما في قوله تعالى :﴿وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَـافِرِينَ﴾ (البقرة : ٢٦٤).
والمعنى : فدللناهم على الحق بنصب الآيات التكوينية وإرسال الرسل وإنزال الآيات الشريفة ورحمنا عليهم بالكلية.
﴿فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى﴾ : حقيقة الاستحباب أن يتحرى الإنسان في الشيء أن يحبه واقتضى تعديته بعلى معنى الإيثار والاختيار كما في "المفردات" ؛ أي : اختاروا الضلالة من عمى البصيرة، وافتقادها على الهداية والكفر على الإيمان والمعصية على الطاعة.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٢٢٥
قال صاحب الكشف : في لفظ الاستحباب ما يشعر بأن قدرة الله تعالى هي المؤثرة، وأن لقدرة العبد مدخلاً ما فإن المحبة ليست اختيارية بالاتفاق، وإيثار العمى حباً، وهو الاستحباب من الاختيارية، واعترض عليه سعدي المفتي في "حواشيه"، بأنه كيف لا تكون المحبة اختيارية، ونحن مكلفون بمحبة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، ولا تكليف بغير الاختياري ألا يرى إلى قوله عليه السلام لعمر رضي الله عنه : الآن يا عمر، يعني في قول عمر ورسول الله آخذ بيده يا رسول الله، أنت أحب إليّ من كل شيء إلا نفسي، فقال عليه السلام :"لا والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك"، فقال عمر : الآن والله أنت أحب إلى من نفسي.
فقال :"الآن يا عمر" ؛ أي : صار إيمانك كاملاً.
والجواب : على ما في "شرح المشارق" لابن الملك أن المراد من هذه المحبة محبة الاختيار
٢٤٥
لا محبة الطبع ؛ لأن كل أحد مجبول على حب نفسه أشد من غيرها، فمعنى الحديث لا يكون إيمانك كاملاً حتى تؤثر رضاي على رضا نفسك، وإن كان فيه هلاكك ونظيره قوله تعالى :﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾ (الحشر : ٩)، فهم مع احتياجهم آثروا أنفسهم على أنفسهم.
وكذا المحب آثر رضا المحبوب على رضا نفسه مع كون محبته لنفسه أشد من محبته له.
وقيل : إن ثمود في الابتداء آمنوا وصدقوا، ثم ارتدوا وكذبوا فأجراهم مجرى إخوانهم في الاستئصال، فتكون الهداية بمعنى الدلالة المقيدة.
قال ابن عطاء : ألبسوا لباس الهداية ظاهراً، وهم عواري، فيتحقق عليهم لباس الحقيقة، فاستحبوا العمى على الهدى، فردوا إلى الذي سبق لهم في الأزل، يعني : أن جبلة القوم، كانت جبلة الضلالة، فمالوا إلى ما جبلوا عليه من قبول الضلال، فإن السوابق تؤثر في العواقب بدون العكس، فلا عبرة بالهداية المتوسطة ؛ لأنها عارضة.


الصفحة التالية
Icon