وفي الإشارة إلى أن من لم يمتثل إلى أوامر الله، ولم يجتنب عن نواهيه، ولم يتابع رسوله، فهو عدو الله، وإن كان مؤمناً بالله مقراً بوحدانيته، وأن ولي الله من كان يؤمن بالله ورسله، ويمثتل أوامر الله في متابعة الرسول، ويحشر الأولياء إلى الله وجنته كما يحشر الأعداء إلى نار البعد وجحيمه.
﴿فَهُمْ يُوزَعُونَ﴾ : يقال : وزعته عن كذا كوضع كففته ؛ أي : يحبس أولهم على آخرهم ليتلاحقوا، وهو كناية عن كثرة أهل النار.
وفيه إشارة إلى أن في الوزع عقوبة لهم.
﴿حَتَّى إِذَا مَا جَآءُوهَا﴾ غاية ليحشر وليوزعون ؛ أي : حتى إذا حضروا النار جميعاً.
وبالفارسية :(تاوقتى كه بيابند بآتش).
وما : مزيدة لتأكيد اتصال الشهادة بالحضور يعني : أن وقت مجيئهم النار لا بد أن يكون وقت الشهادة عليهم.
﴿شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ﴾.
إلخ ؛ لأنهم كانوا استعملوها في معاصي الله بغير اختيارهم فشهدت الآذان بما سمعت من شر وأفرد السمع لكونه مصدر في الأصل.
﴿وَأَبْصَـارُهُمْ﴾ بما نظرت إلى حرام ﴿وَجُلُودُهُم﴾ ظواهر أنفسهم وبشراتهم بما لامست محظوراً والجلد قشر البدن.
وقيل : المراد بالجلود الجوارح والأعضاء.
(واول عضوى كه تكلم كندزان كف دست راست بود).
﴿بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ في الدنيا.
ويقال : تخبر كل جارحة بما صدر من أفاعيل صاحبها ؛ لا أن كلاً منها تخبر بجناياتها المعهودة فقط، فالموصول عبارة عن جميع أعمالهم السيئة، وفنون كفرهم ومعاصيهم، وتلك الشهادة بأن ينطقها الله، كما أنطق اللسان إذ ليس نطقها بأغرب من نطق
٢٤٧
اللسان عقلاً، وكما أنطق الشجرة، والشاة المشوية المسمومة بأن يخلق فيها كلاماً، كما عند أهل السنة، فإن البنية ليست بشرط عندهم للحياة والعقل، والقدرة كما عند المعتزلة.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٢٢٥
وفي "حواشي سعدي المفتي" بأن ينطقها لا على أن تكون تلك الأعضاء آلاته، ولا على أن تكون القدرة والإرادة آلة في الإنطاق، وكيف وهي كارهة لما نطقوا به بل على أن تكون الأعضاء هي الناطقة، بالحقيقة موصوفة بالقدرة والإرادة.
وفيه تأمل انتهى.
روي : أنه عليه السلام ضحك يوماً حتى بدت نواجذه، ثم قال : لا تسألون مم ضحكت قالوا : مم ضحكت يا رسول الله.
قال : عجبت من مجادلة العبد ربه يوم القيامة.
قال : يقول يا رب أليس قد وعدتني أن لا تظلمني.
قال : فإن لك ذلك.
قال : فإني لا أقبل شاهداً إلا من نفسي، قال الله تعالى : أوليس كفى بي شهيداً، وبالملائكة الكرام الكاتبين، فيقول : أي رب أجرتني من الظلم، فلن أقبل عليّ شاهداً إلا من نفسي.
قال : فيختم على فيه وتتكلم الأركان بما كان يعمل.
قال عليه السلام : فيقول لهن بعداً، لكن وسحقاً عنكن كنت أجادل.
وهذه الرواية تنطق بأن المراد بالجلود الجوارح.
وفيه إشارة إلى أن الجماد في الآخرة يكون حيواناً ناطقاً كما قال تعالى :﴿وَإِنَّ الدَّارَ الاخِرَةَ لَهِىَ الْحَيَوَانُ﴾.
﴿حَتَّى إِذَا مَا جَآءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَـارُهُمْ وَجُلُودُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِى أَنطَقَ كُلَّ شَىْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَـارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَـاكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِّمَّا تَعْمَلُونَ * وَذَالِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِى ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاـاكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنَ الْخَـاسِرِينَ﴾.
﴿وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ﴾ توبيخاً.
﴿لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا﴾ (العنكبوت : ٦٤)وصيغة جمع العقلاء في خطاب الجلود.
وكذا في قوله تعالى : قالوا : أنطقنا إلخ.
لوقوعها في موقع السؤال والجواب المختصين بالعقلاء، ولعل تخصيص الجلود ؛ لأنها بمرأى منهم بخلاف غيرها، أو لأن الشهادة منها أعجب وأبعد إذ ليس شأنها الإدراك بخلاف السمع والبصر.
والمراد : الإدراك اللازم للشهادة، وهو الإبصار أو الإسماع إذ الشهادة لا تكون إلا بالمعاينة، أو السماع والإدراك اللمسي لا مدخل له في الشهادة، فيحصل التعجب والبعد.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٢٢٥
وعن ابن عباس رضي الله عنهما : المراد بشهادة الجلود شهادة الفروج ؛ لأنها لا تخلو عن الجلود، والله حيي يكني، وهو الأنسب بتخصيص السؤال بها في قوله، ﴿وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا﴾ قالوا : ما نشهد به.
من الزنا أعظم جناية وقبحاً واجلب للخزي والعقوبة مما يشهد به السمع والأبصار من الجنايات المكتسبة بتوسيطها.