﴿قَالُوا﴾ ؛ أي : الجلود ﴿أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِى أَنطَقَ كُلَّ شَىْءٍ﴾.
ناطق وأقدرنا على بيان الواقع فشهدنا عليكم بما عملتم بواسطتنا من القبائح وما كتمناها.
وفي الآية إشارة إلى أن الأرواح والأجسام متساوية في قدرة الله تعالى إن شاء جعل الأرواح بوصف الأجسام صماً بكماً عمياً فهم لا يعقلون، وإن شاء جعل الأجسام بوصف الأرواح تنطق وتسمع وتبصر وتعقل.
﴿وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ :(واز عدم بوجود آورد).
﴿وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ فإن من قدر على خلقكم وإنشائكم أولاً وعلى إعادتكم ورجعكم ؛ أي : ردكم إلى جزائه ثانياً لا يتعجب من إنطاقه لجوارحكم.
وفي "تفسير الجلالين" : هو ابتداء إخبار عن الله تعالى وليس من كلام الجلود، ولعل صيغة المضارع مع أن هذه المحاورة بعد البعث، والرجع لما أن المراد بالرجع ليس مجرد الرد إلى الحياة بالبعث بل ما يعمه، وما يترتب عليه من العذاب الخالد المترقب عند التخاطب على تغليب المتوقع على الواقع على أن فيه مراعاة الفواصل.
يقول الفقير : قد ثبت في علم الكلام : أن الله تعالى قد خلق كلاً من الحواس لإدراك أشياء مخصوصة كالسمع للأصوات والذوق للطعوم والشم للروائح، لكن ذلك الإدراك بمحض خلق الله تعالى من غير تأثير الحواس، فلا يمتنع
٢٤٨
أن يخلق عقيب صرف الباصرة إدراك الأصوات مثلاً، وإن لم يكن واقعاً بالفعل، وقد صح أن موسى عليه السلام سمع كلام الله تعالى من كل جانب، وقس عليه الرؤية ليلة المعراج، فإنه عليه السلام كان بصراً محضاً في صورة الجسم، وكذلك اللسان، فإنه مخلوق للنطق، لكن الله تعالى إذا أراد.
كان جميع البدن لساناً مع أن الإنسان لما تشرف بالحياة والنطق كان جميع أجزائه ناطقاً حكيماً كما كان حياً حقيقة، وذلك لإضافته إلى الحي الناطق، بل وسر الحياة والنطق سار في جميع أجزاء العالم فضلاً عن أعضاء بني آدم.
وقد ورد "إن كل شيء سمع صوت المؤذن من رطب ويابس يشهد له يوم القيامة"، فهذه الشهادة من باب النطق لا عن علم وتعقل، فليحذر العبد عن شهادة الأعضاء، وكذا المكان والزمان.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٢٢٥
وعن علاء بن زياد قال : ليس يوم يأتي من أيام الدنيا إلا يتكلم، ويقول : يا أيها الناس إني يوم جديد وأنا على ما يعمل في شهيد، وإني لو غربت شمسي لم أرجع إليكم إلى يوم القيامة.
قال الصائب :(غبار قابلة عمر جون نمايان نيست.
دوا سبه رفتن ليل ونهار را درياب).
﴿وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَـارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ﴾.
قوله : أن يشهد في موضع النصب بإسقاط الخافض ؛ أي : من أن يشهد لأن استتر لا يتعدى بنفسه، أو في موضع الجر على تقدير المضاف ؛ أي : مخافة أن يشهد ولا في الموضعين زائدة لتأكيد النفي.
وهذه حكاية لما سيقال للأعداء يومئذٍ من جهته تعالى بطريق التوبيخ والتقريع تقرير الجواب الجلود.
والمعنى : وما كنتم تستترون في الدنيا عند مباشرتكم الفواحش مخافة أن تشهد عليكم جوارحكم بذلك ؛ لأنها كانت أجساماً صامتة غير ناطقة، ولم يكن في حسابكم ما استقبلكم كما كنتم تستترون من الناس بالحيطان والحجب وظلمة الليل مخافة الافتضاح عندهم، بل كنتم جاحدين بالبعث والجزاء رأساً فضلاً عن شهادة الأعضاء.
وفيه تنبيه على أن المؤمن ينبغي أن يتحقق أن لا يمر عليه حال إلا وعليه رقيب، وأن الله معه أينما كان.
وفي الحديث :"أفضل إيمان المرء أن يعلم أن الله معه حيث كان".
(يارباتست هر كجاهستى.
جاى ديكر جه خواهى اى او باش.
باتو در زيريك كليم جو اوست.
بس برواى حريف خودرا باش).
فعلى العبد أن يحفظ نفسه ويحاسبها قبل أن تحاسب.
قال البقلي في "عرائسه" : من باشر المعصية تظهر آثارها على جوارحه لا يقدر أن يسترها، ولو كان عالماً بنفسه يستغفر في السر عند الله حتى تضمحل آثارها، ولا يرى وجود تلك الآثار صاحب كل نظرة.
قال أبو عثمان رحمه الله : من لم يذكر في وقت مباشرته الذنوب شهادة جوارحه عليه يجترىء على الذنوب، ومن ذكر ذلك حين مباشرتها ربما تلحقه العصمة والتوفيق فيمنعانه عنها وفضوح الدنيا فالنار ولا العار.
﴿وَلَـاكِن ظَنَنتُمْ﴾ عند استتاركم.
﴿أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِّمَّا تَعْمَلُونَ﴾ من القبائح المخفية، فلا يظهرها في الآخرة على تقدير وقوعها، ولذلك اجترأتم على ما فعلتم يشير إلى معتقد الفلاسفة الزنادقة، فإنهم يعتقدون أن الله لا يكون عالم الجزئيات، وفيه إيذان بأن شهادة الجوارح بإعلامه تعالى حينئذٍ، لا بأنها كانت عالمة بما شهدت به عند صدوره عنهم وأدخل الكثير لكونهم يزعمون أن الله يعلم ما يجهر به دون ما يسر.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٢٢٥
عن ابن مسعود رضي الله عنه : كنت مستتراً بأستار الكعبة، فدخل ثلاثة نفر ثقفيان وقرشي أو قرشيان وثقفي كثير شحم بطونهم قليل فقه بطونهم.
قيل :
٢٤٩


الصفحة التالية
Icon