قال ذو النون المصري قدس سره : ركبنا مرة في مركب وركب معنا شاب صبيح وجهه مشرق، فلما توسطنا فقد صاحب المركب كيساً فيه مال، ففتش كل من في المركب، فلما وصلوا إلى الشاب ليفتشوه وثب وثبة من المركب حتى جلس على أمواج البحر.
وقام له الموج على مثال السرير، ونحن ننظر إليه من المركب.
وقال : يا مولاي إن هؤلاء اتهموني، وإني أقسم عليك يا حبيب قلبي أن تأمر كل دابة في هذا المكان أن تخرج رأسها، وفي أفواهها جواهر.
قال ذو النون : فما تم كلامه حتى رأينا دواب البحر أمام المركب، قد أخرجت رؤوسها، وفي فم كل واحدة منها جوهرة تتلألأ، وتلمع، ثم وثب الشاب من الموج إلى البحر وجعل يتبختر على وجه الماء، ويقول : إياك نعبد وإياك نستعين حتى غاب عن بصري، فحملني هذا على السياحة، وذكرت قوله عليه السلام "لا يزال في أمتي ثلاثون قلوبهم على قلب إبراهيم خليل الرحمن وكلما مات منهم واحد أبدل الله مكانه واحداً" ظهر من هذه الحكاية، أن الله تعالى تجلى لذلك الشاب بصفة اللطف، فسلم من قهر البحر، وذلك لتحققه بحقيقة قوله : إياك نعبد ؛ فإنه من اختصاص العبادة يحصل اختصاص التوحيد وبالتوحيد الحقاني يزول كل ما كان من طريق القهر ؛ لأن من قهر وجوده لا يقهر مرة أخرى، ولما شاهد ذو النون هذه الحال من الشاب ؛ لأنها حال تنافي حال أهل الدنيا.
كما قال الشيخ المغربي :
هيج كس كرجه زحالى نيست خالى درجهان
ليكن اين حالى كه ماراهست حال ديكراست
سلك طريق اللطف وساح في الأرض حتى وصل إلى اللطيف الخبير.
﴿وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَدْعُونَ مِن قَبْلُا وَظَنُّوا مَا لَهُم مِّن مَّحِيصٍ * لا يَسْـاَمُ الانسَـانُ مِن دُعَآءِ الْخَيْرِ وَإِن مَّسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ * وَلَـاـاِنْ أَذَقْنَـاهُ رَحْمَةً مِّنَّا مِنا بَعْدِ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَـاذَا لِى وَمَآ﴾.
﴿لا يَسْـاَمُ الانسَـانُ﴾ ؛ أي : لا يمل ولا يضجر.
وبالفارسية :(ملول نميشود كافر).
فهذا وصف للجنس بوصف غالب أفراده لما أن اليأس من رحمة الله لا يتأتى إلا من الكافر، وسيصرح به.
﴿مِن دُعَآءِ الْخَيْرِ﴾ ؛ أي : من دعائه الخير وطلبه السعة في النعمة وأسباب المعيشة، فحذف الفاعل، وأضيف إلى المفعول.
والمعنى : أن الإنسان في حال إقبال الخير إليه لا ينتهي إلى درجة إلا ويطلب الزيادة عليها، ولا يمل من طلبها أبداً، وفيه إشارة إلى أن الإنسان مجبول على طلب الخير بحيث لا تتطرق إليه السآمة، فبهذه الخصلة بلغ من بلغ رتبة خير البرية، وبها بلغ من بلغ دركة شر البرية، وذلك لأنه لما خلق لحمل الأمانة التي أشفق منها البرية، وأبين أن يحملنها.
وهي عبارة عن الفيض الإلهي بلا واسطة.
وذلك فيض لا نهاية له، فلحملها احتاج الإنسان إلى طلب غير متناه، فطلب بعضهم هذا الطلب
٢٧٧
في تحصيل الدنيا وزينتها وشهواتها واستيفاء لذاتها فما سئم من الطلب وصار شر البرية.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٢٢٥
قال الحافظ :
تاكى غم دنياى دنى اى دل دانا
حيفست زخوبى كه شود عاشق زشتى
﴿وَإِن مَّسَّهُ الشَّرُّ﴾ ؛ أي : العسر والضيق.
﴿فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ﴾ ؛ أي : يبالغ في قطع الرجاء من فضل الله ورحمته.
وبالفارسية :(واكر برسيد ويرابدى جون تنكى وتنكدستى وبيمارى بس نوميدست ازراحت اميد برنده ازرحمت).
والقنوط : عبارة عن يأس مفرط يظهر أثره في الشخص فيتضاءل وينكر فبهذا ظهر الفرق بين اليأس والقنوط.
وفي "التأويلات النجمية" : وإن مسه الشر، وهو فطامه عن مألوفات نفسه وهواه فيؤوس قنوط لايرجو زوال البلايا والمحن لعدم علمه بربه، وانسداد الطريق على قلبه في الرجوع إلى الله ليدفع عنه ذلك.
قال الحافظ :
سروش عالم غيبم بشارتى خوض داد
كه كس هميشه بكيتى دزم نخواهد ماند
وفيه إشارة إلى أن الإنسان لا يدعو عارفاً بربه طاعة لربه، بل لتحصيل مراده وأربه، ولهذا وقع في ورطة الفرار واليأس عند ظهور اليأس.


الصفحة التالية
Icon