قال بعض الكبار : النعمة توجب الإعراض كما قال الله تعالى :﴿وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى الانسَـانِ﴾، إلخ.
ومس الضر يوجب الإقبال على الله كما قال الله تعالى :﴿وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ﴾ إلخ.
فالله تعالى رحيم على العبد بدفع النعمة والصحة عنه ؛ لأنها مظنة الإعراض والبلاء للولاء كاللهب للذهب، فالبلاء كالنار، فكما أن النار لا تبقي من الحطب شيئاً إلا وأحرقته، فكذا البلاء لا يبقي من ضر الوجود شيئاً، فالطريق إلى الله على جادة المحنة أقرب من جادة المنحة إذ الأنبياء والأولياء جاؤوا، وذهبوا من طريق البلاء، وقد ثبت أن النار لا ترتفع من الدنيا أبداً، فكيف يؤمل العاقل الراحة في الدنيا، فهي دار محنة وقد ورد :"الدنيا سجن المؤمن" لا يستريح في الدنيا، ولا يخلو من قلة أو علة، أو ذلة، وله راحة عظمى في الآخرة والكافر خاسر في الدنيا والآخرة، فعلى العبد أن يمشي على الصراط السوي،
٢٨٠
ويخاف من الزلق ومن مكر الله تعالى.
قال الحافظ :
جه جاى من كه بلغزد سبهر شعبده باز
ازين حيل كه در انبانة بهانة يست
﴿قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُم بِه مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِى شِقَاقا بَعِيدٍ * سَنُرِيهِمْ ءَايَـاتِنَا فِى الافَاقِ وَفِى أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّا أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّه عَلَى كُلِّ شَىْءٍ شَهِيدٌ * أَلا إِنَّهُمْ فِى مِرْيَةٍ مِّن لِّقَآءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّه بِكُلِّ شَىْءٍ مُّحِيطُ﴾.
﴿سَنُرِيهِمْ﴾ :(زود باشد كه بنما ايشانرا يعني كفار قريش را).
﴿ءَايَـاتِنَا﴾ : الدالة على حقيقة القرآن، وكونه من عند الله ﴿فِى الافَاقِ﴾ : جمع أفق، وهي الناحية من نواحي الأرض، وكذا آفاق السماء : نواحيها وأطرافها.
والآفاق : ما خرج عنك، وهو العالم الكبير من الفرش إلى العرش، والأنفس ما دخل فيك، وهو العالم الصغير، وهو كل إنسان بانفراده.
والمراد بالآيات الآفاقية : ما أخبرهم النبي عليه السلام من الحوادث الآتية كغلبة الروم على فارس في بضع سنين، وآثار النوازل الماضية الموافقة لما هو المضبوط المقرر عند أصحاب التواريخ.
والحال أنه عليه السلام أمي لم يقرأ، ولم يكتب، ولم يخالط أحداً، أو ما يسر الله له ولخلفائه من الفتوح، والظهور على آفاق الدنيا والاستيلاء على بلاد المشارق والمغارب على وجه خارق للعادة إذ لم يتيسر أمثالها لأحد من خلفاء الأرض قبلهم
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٢٢٥
﴿وَفِى أَنفُسِهِمْ﴾ : هو ما ظهر فيما بين أهل مكة من القحط والخوف، وما حل بهم يوم بدر ويوم الفتح من القتل والمقهورية، ولم ينقل إلينا أن مكة فتحت على يد أحد قبل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وكذا قتل أهلها، وأسرهم.
وقيل : في الآفاق ؛ أي : في أقطار السماوات والأرض من الشمس والقمر والنجوم، وما يترتب عليها من الليل والنهار، والأضواء والظلال والظلمات، ومن النبات والأشجار والأنهار.
وفي أنفسهم من لطيف الصنعة وبديع الحكمة في تكوين الأجنة في ظلمات الأرحام وحدوث الأعضاء العجيبة والتراكيب الغريبة كقوله تعالى :﴿وَفِى أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ﴾ (الذاريات : ٢١)، واعتذر بأن معنى السين مع أن إراءة تلك الآيات قد حصلت قبل ذلك أنه تعالى سيطلعهم على تلك الآيات زماناً فزماناً ويزيدهم وقوفاً على حقائقها يوماً فيوماً، قالوا : الآفاق هو العالم الكبير والأنفس هو العالم الصغير.
(وهرجه از دلائل قدرت درعا لم كبيراست نمودار آن عالم صغير است)، وتزعم أنك جرم صغير، وفيك انطوى العالم الأكبر (جميع آنجه در عالم است مفصلا در نشأن إنسان اسن مجملاً بل أنسان عالم صغير عالم مجملست ازروى صورت وعالم أنسان كبير اما أزروى قدرت مرتبة إنسان كبيرست وعالم إنسان صغير) :
اى آنكه تر است ملك اسكندر وجم
از حرص مباش دربى نيم درم
عالم همه درتست وليكن از جهل
بنداشتة مباش تو خويش را در عالم
فجسم الإنسان كالعرش، ونفسه كالكرسي، وقلبه كالبيت المعمور، واللطائف القلبية كالجنان والقوى الروحانية كالملائكة والعينان والأذنان والمنخران والسبيلان والثديان والسرة والفم كالبروج الاثني عشر، والقوة الباصرة والسامعة والذائقة والشامة واللامسة والناطقة والعاقلة، كالكواكب السيارة، وكما أن رياسة الكواكب بالشمس والقمر واحدهما يستمد من الآخر، فكذلك رياسة القوى بالعقل والنطق، وهو أي النطق مستمد من العقل، وكما أن في العالم الكبير ستين وثلاثمائة يوم، فكذا في الإنسان ستون وثلاثمائة مفصل، وكما أن للقمر ثمانية وعشرين منزلاً يدور فيه في كل شهر، فكذا في الفم ثمانية وعشرون مخرجاً للحروف، وكما أن القمر يظهر في خمس عشرة ليلة، ويخفى في الباقي كذلك التنوين والنون الساكنة
٢٨١