وقال في "المفردات" : معناه محفوظ لا يضيع، كقوله :﴿عِلْمُهَا عِندَ رَبِّى فِى كِتَـابٍا لا يَضِلُّ رَبِّى وَلا يَنسَى﴾ (طه : ٥٢).
﴿وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ﴾ بموكول إليه أمرهم حتى تسأل عنهم وتؤخذ بهم، وإنما وظيفتك الإنذار وتبليغ الأحكام.
وفيه إشارة إلى أن كل من عمل بمتابعة هواه، وتركحداً ونقض له عهداً، فهو متخذ الشياطين أولياء ؛ لأنه يعمل بأوامرهم وأفعاله موافقة لطباعهم الله حفيظ عليهم بأعمال سرهم وعلانيتهم إن شاء عذبهم، وإن شاء عفا عنهم، وما أنت عليهم بوكيل لتمنعهم عن معاملاتهم، فعلى العاقل أن لا يتخذ من دون الله أولياء، بل يتفرد بمحبة الله وولايته كما قال تعالى :﴿قُلِ اللَّه ثُمَّ ذَرْهُمْ﴾ (الأنعام : ٩١) حتى يتولاه في جميع أموره، وما أحوجه إلى أحد سواه.
وقال الأستاذ أبو علي الدقاق قدس سره : ظهرت علة بالملك يعقوب بن الليث أعيت الأطباء، فقالوا له : في ولايتك رجل صالح يسمى سهل بن عبد الله لو دعا لك لعل الله يستجيب له، فاستحضره، فقال : ادع الله، فقال : كيف يستجاب دعائي فيك.
وفي حسبك مظلومون، فأطلق كل من حبسه، فقال سهل : اللهم كما أريته ذل المعصية، فأره عز الطاعة وفرج عنه فعوفي، فعرض مالاً على سهل، فأبى أن يقبله، فقيل له : لو قبلته ودفعته إلى الفقراء، فنظر إلى الحصباء في الصحراء، فإذا هي جواهر، فقال : من يعطي مثل هذا يحتاج إلى مال يعقوب بن الليث، فالمعطي والمانع والضار والنافع هو : الله الولي الوكيل الذي لا إله غيره :
نقش او كردست ونقاش من اوست
غير اكر دعوى كند او ظلم جوست
﴿وَكَذَالِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ قُرْءَانًا عَرَبِيًّا﴾.
ذلك إشارة إلى مصدر أوحينا، ومحل الكاف النصب
٢٨٨
على المصدرية، وقرآناً عربياً مفعول لأوحينا ؛ أي : ومثل ذلك الإيحاء البديع البين المفهم أوحينا إليك إيحاء لا لبس فيه إليك وعلى قومك.
وقال الكاشفي :(وهمجانكه وحى كرديم بهر بيغمبر بزبان او ووحى كرديم بتو قرآني بلغت عرب كه قوم تواند تاكه فهم حاصل شود).
﴿لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى﴾ ؛ أي : لتخوف أهل مكة بعذاب الله على تقدير إصرارهم على الكفر والعرب تسمي أصل كل شيء بالأم، وسميت مكة أم القرى تشريفاً لها وإجلالاً لاشتمالها على البيت المعظم، ومقام إبراهيم، ولما روى من أن الأرض دحيت من تحتها، فمحل القرى منها محل البنات من الأمهات.
﴿وَمَنْ حَوْلَهَا﴾ من العرب، وهذا ؛ أي : التبيين بالعرب لا ينافي عموم رسالته ؛ لأن تخصيص الشيء بالذكر لا ينافي حكم ما عداه، وقيل : من أهل الأرض كلها، وبذلك فسره البغوي، فقال : قرى الأرض كلها وكذا القشيري حيث قال العالم محدق بالكعبة ومكة ؛ لأنهما سرة الأرض :
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٢٨٥
بس همه أهالي بلاد برحوالى ويند
قال في "التأويلات النجمية" : يشير إلى إنذار نفسه الشريفة ؛ لأنها أم قرى نفوس آدم وأولاده ؛ لأنه صلى الله تعالى عليه وسلم هو الذي تعلقت القدرة بإيجاده قبل كل شيء، كما قال أول ما خلق الله روحي، ومنه تنشأ الأرواح والنفوس.
ولهذا المعنى قال آدم : ومن دونه تحت لوائي يوم القيامة، فالمعنى : كما يوحي إليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم لينذروا الأمم.
كذلك أوحينا قرآناً عربياً لتنذر نفسك الشريفة بالقرآن العربي ؛ لأن نفسك عربية ومن حولها من نفوس أهل العالم ؛ لأنها محدقة بنفسك الشريفة، ولذلك قال تعالى :﴿وَمَآ أَرْسَلْنَـاكَ إِلا رَحْمَةً لِّلْعَـالَمِينَ﴾ (الأنبياء : ١٠٧).
وقال عليه السلام :"بعثت إلى الخلق كافة".
مه طلعتى كه برقد قدرش بريده اند
ديباى قم فانذر واستبرق دنا
﴿وَتُنذِرَ﴾ أهل مكة ومن حولها.
﴿يَوْمَ الْجَمْعِ﴾ ؛ أي : بيوم القيامة وما فيه من العذاب ؛ لأنه يجمع فيه الخلائق من الأولين والآخرين وأهل السماوات وأهل الأرض، والأرواح والأشباح والأعمال والعمال، فالباء محذوف من اليوم، كما قال :﴿لِّيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا﴾ (الكهف : ٢)، أي : ببأس شديد كما قاله أبو الليث، فيكون مفعولاً به لا ظرفاً، كما في "كشف الأسرار"، وقد سبق غير ذلك في ﴿حم﴾ المؤمن عند قوله تعالى :﴿لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ﴾ (غافر : ١٥) ﴿لا رَيْبَ فِيهِ﴾ اعتراض لا محل له ؛ أي : لا بد من مجيء ذلك اليوم، وليس بمرتاب فيه في نفسه وذاته ؛ لأنه لا بد من جزاء العاملين من المنذرين والمنذرين، وأهل الجنة وأهل النار وارتياب الكفار فيه لا يعتد به، ولا شك في الجمع أنه كائن، ولا بد من تحققه.
﴿فَرِيقٌ﴾ وهم المؤمنون ﴿فِى الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ﴾، وهم الكافرون ﴿فِى السَّعِيرِ﴾ ؛ أي : سميت بهالالتها بها، وذلك بعد جمعهم في الموقف ؛ لأنهم يجمعون فيه أولاً ثم يفرقون بعد الحساب، والتقدير منهم فريق على أن فريق مبتدأ حذف خبره، وجاز الابتداء بالنكرة لأمرين تقديم خبرها، وهو الجار والمجرور المحذوف ووصفها بقوله في الجنة والضمير المجرور في منهم للمجموعين لدلالة لفظ الجمع عليه فإن المعنى يوم يجمع الخلائق في موقف الحساب.


الصفحة التالية
Icon