قال بعضهم : لعل من قال : الكاف زائدة أراد أنه يعطي مغني ليس مثله شيء غير أنه آكد لما ذكر من أنه إذا نفى عمن يناسبه كان نفيه عنه أولى.
وقال بعضهم : كلمة مثل هي الزائدة.
والتقدير : ليس كهو شيء، ودخول الكاف على الضمائر لا يجوز، فالوجه الرجوع إلى طريق الكناية ؛ لأن القول بزيادة ماله فائدة جليلة وبلاغة مقبولة بعيد كل البعد.
قال في "بحر العلوم" : ومما يجب التنبه له أن المثل عبارة عن المساوات في بعض الصفات لا في جميعها كما زعم كثير من المحققين، فإنه سهو بدليل قوله تعالى :﴿قُلْ إِنَّمَآ أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَىَّ﴾ (الكهف : ١١٠)، الآية.
فإنه ثبت مماثلته بالاشتراك والمساواة في وصف البشرية فقط لا في جميع الأوصاف كما لا يخفى للقطع بأن بينه وبينهم مخالفة بوجوه كثيرة من اختصاصه بالنبوة والرسالة والوحي إلى غير ذلك.
ألا ترى إلى قوله : يوحي إلى كيف أثبت المخالفة بأن خصصه بالإيحاء إليه ذكراً، فظهر أن ما ذكره الإمام الغزالي رحمه الله من أن المثل عبارة عن المساوي في جميع الصفات ليس كما ينبغي، انتهى.
يقول الفقير : إنما جاء التخصيص من قبل قوله : بشر كما في قوله : زيد مثل عمر في النحو، وإلا فلو قال : أنا مثلكم لأفادت المماثلة في جميع الصفات، كما في قوله : زيد مثل عمرو أي من كل الوجوه.
قال الإمام الراغب في "المفردات" : المثل عبارة عن المشابه لغيره في معنى من المعاني ؛ أي : معنى
٢٩٣
كان.
وهو أعم الألفاظ الموضوعة للمشابهة، وذلك أن الند يقال : لما يشارك في الجوهر فقط والشبه يقال : فيما يشاركه في القدر والمساحة فقط.
والمثل عام في جميع ذلك.
ولهذا لما أراد الله سبحانه وتعالى نفي التشبيه من كل وجه خصه بالذكر، فقال تعالى : ليس كمثله شيء.
انتهى.
وحيث ترى في مرآة القلب صورة أو خطر بالخاطر مثال، وركنت النفس إلى كيفيته، فليجزم بأن الله بخلافه إذ كل ذلك من سمات الحدوث لدخوله في دائرة التحديد والتكييف اللازمين للمخلوقين المنزه عنهما الخالق، ولقد أقسم سيد الطائفة الجنيد قدس سره بأنه ما عرف الله إلا الله.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٢٨٥
وقال بعض سادات الصوفية قدس الله أسرارهم : المثل ليس بزائد عند أهل الحقيقة، فإن الهاء كناية عن الهوية الذاتية، والمثل إشارة إلى التجلي الإلهي.
والمعنى : ليس كالتجلي الإلهي الذي هو أول التجليات شيء إذ هو محيط بكل التجليات الباقية المرتبة عليه.
قال الواسطي قدس سره : أمور التوحيد كلها خرجت من هذه الآية ليس كمثله شيء ؛ لأنه ما عبر عن الحقيقة بشيء إلا والعلة مصحوبة والعبارة منقوضة ؛ لأن الحق تعالى لا ينعت على إقداره ؛ لأن كل باعث مشرف على المنعوت وجل أن يشرف عليه المخلوق.
قال الشيخ سعدي :
نه براوج ذاتش برد مرغ وهم
نه در ذيل وصفش رسد دست فهم
توان در بلاغت بسحبان رسيد
كنه در نه بيجون سبحان رسيد
جه خاصان درين ره فرس رانده اند
بلا احصى از تك فرومانده اند
﴿وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ : المبالغ في العلم بكل ما يسمع ويبصر.
قال الزروقي : السميع الذي انكشف كل موجود لصفة سمعه، فكان مدركاً لكل مسموع من كلامه وغيره والبصير الذي يدرك كل موجود برؤيته.
والسمع والبصر صفتان من صفاته المنعوتة نابتتان له تعالى كما يليق بوصفه الكريم ورده بعضهم للعلم، ولا يصح.
انتهى.
قال الغزالي رحمه الله : السمع في حقه عبارة عن صفة ينكشف بها كمال صفات المسموعات والبصر عبارة عن الوصف الذي به ينكشف كمال نعوت، والمبصرات وسمع العبد قاصر، فإنه يدرك ما قرب لا ما بعد بجارحة، وربما بطل السمع بعظم الصوت ؛ وإنما حظ العبد منه أمران أحدهما أن يعلم أن الله سميع، فيحفظ لسانه.
والثاني : أن يعلم أن الله لم يخلق له السمع إلا ليسمع كلامه، وحديث رسوله، فيستفيد به الهداية إلى طريق الله، فلا يستعمل سمعه إلا فيه، واستماع صوت الملاهي حرام، وإن سمع بغتة، فلا إثم عليه والواجب عليه أن يجتهد حتى لا يسمع ؛ لأنه عليه السلام "أدخل أصبعه في أذنه"، كما في البزازية.
وفي الحديث :"استماع صوت الملاهي معصية والجلوس عليها فسق، والتلذذ بها كفر" على وجه التهديد وبصر العبد قاصر إذ لا يمتد إلى ما بعد، ولا يتغلغل إلى باطن ما قرب منه وحظه الديني أمران أن يعلم أنه خلق له البصر، لينظر إلى الآيات والآفاقية والأنفسية، وأن يعلم أنه بمرأى من الله ومسمع ؛ أي : بحيث يراه ويسمعه، فمن قارف معصية، وهو يعلم أن الله يراه، فما أجسره وأخسره، ومن ظن أنه لا يراه فما أكفره.
قال في "كشف الأسرار" : ثم قال : وهو السمع البصير لئلا يتوهم أنه لا صفات له كما لا مثل له، فقد تضمنت الآية إثبات الصفة ونفي التشبيه والتوحيد كله بين هذين الحرفين إثبات صفة من غير تشبيه ونفي تشبيه من غير تعطيل، فمن نزل عن الإثبات،
٢٩٤
وادعى اتقاء التشبيه وقع في التعطيل، ومن ارتقى عن الظاهر، وادعى اتقاء التعطيل حصل على التشبيه، وأخطأ وجه الدليل، وعلى الله قصد السبيل.


الصفحة التالية
Icon