جزء : ٨ رقم الصفحة : ٢٨٥
وفي "التأويلات النجمية" : أن قوماً وقعوا في تشبيه ذاته بذات المخلوقين، فوصفوه بالحد والنهاية والكون والمكان، وأقبح قولاً منهم من وصفه بالجوارح والآلات، وقوم وصفوه بما هو تشبيه في الصفات، فظنوا أن بصره في حدقة وسمعه في عضو ورقدرته في يد إلى غير ذلك وقوم قاسوا حكمه على حكم عباده، فقالوا : ما يكون من الحق قبيحاً فمنه قبيح وما يكون من الخلق حسناً، فمنه حسن، فهؤلاء كلهم أصحاب التشبيه والحق تعالى مستحق التنزيه لا التشبيه محقق بالتحصيل دون التعطيل والتمثيل مستحق التوحيد دون التحديد موصوف بكمال الصفات مسلوب عن العيوب والنقصان.
﴿لَه مَقَالِيدُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ﴾ (الزمر : ٦٣).
﴿فَاطِرُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِا جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الانْعَـامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيه لَيْسَ كَمِثْلِه شَىْءٌا وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ * لَه مَقَالِيدُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِا يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُا إِنَّه بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ * شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِه نُوحًا وَالَّذِى أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِه إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَىا أَنْ أَقِيمُوا﴾.
قال الجواليقي في كتابه "المعرب" المقليد المفتاح فارسي معرب لغة في الإقليد، والجمع مقاليد، فالمقاليد : المفاتيح.
وهي كناية عن الخزائن وقدرته عليها وحفظه لها.
وفيه مزيد دلالة على الاختصاص ؛ لأن الخزائن لا يدخلها، ولا يتصرف فيها إلا من بيده مفاتيحها.
وقال الكاشفي :(كليد هاى آسمانها وزمينها يعني : مفاتيح رزق جه خزانة آسمان مطراست وكنجينة زمين نبات).
قال ابن عطاء : مقاليد الأرزاق صحة التوكل ومقاليد القلوب صحة المعرفة بالله ومقاليد العلوم في الجوع :
ندارند تن بروران آكهى
كه برمعده باشدز حكمت تهى
وقال بعضهم : مقاليد سماواته ما في قلوب ملائكته من أحكام الغيوب، ومقاليد أرضه ما أودع الحق صدور أوليائه من عجائب القلوب.
﴿يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ﴾ يوسع ويضيق ﴿إِنَّه بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ﴾ مبالغ في الإحاطة به، فيفعل كل ما يفعل على ما ينبغي أن يفعل عليه، فلا يوسع الرزق إلا إذا علم أن سعته خير للعبد.
وكذا التضييق.
وفي "التأويلات النجمية" : له مفاتيح سماوات القلوب، وفيها خزائن لطفه ورحمته وأرض النفوس، وفيها خزائن قهره، وعزته، فكل قلب مخزن لنوع من ألطافه، فبعضها مخزن المعرفة وبعضها مخزن المحبة، وبعضها مخزن الشوق وبعضها مخزن الإرادة.
وغير ذلك من الأحوال كالتوحيد والتفريد والهيبة والأنس والرضا.
وغير ذلك، وكل نفس مخزن لنوع من أوصاف قهره، فبعضها مخزن النكرة، وبعضها مخزن الجحود وبعضها مخزن الإنكار، وغير ذلك من الأخلاق الذميمة كالشرك والنفاق، والحرص والكبر والبخل والشره والغضب والشهوة، وغير ذلك وفائدة التعريف أن المقاليد له قطع أفكار العباد من الخلق إليه في جلب ما يريدونه، ودفع ما يكرهونه، فإنه تعالى يوسع ويضيق رزق النفوس ورزق القلوب، والخلق بمعزل عن هذا الوصف.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٢٨٥
وفي الحديث :"لا إله إلا الله مفتاح الجنة"، ولا شك أن الجنة جنتان : جنة صورية هي دار النعيم، وجنة معنوية هي : القلب.
ومفتاح كلتيهما هو التوحيد، وهو بيد الله يعطيه من يشاء من عباده ويجعله من أهل النعيم مطلقاً، ثم إن الرزق الصوري هي المأكولات والمشروبات الحسية والرزق المعنوي، هي العلوم الحقيقية، والمعارف الإلهية، فالأول داخل في الآية بطريق العبارة.
والثاني : بطريق الإشارة.
وفي المثنوي :
٢٩٥
فهم نان كردن نه حكمت اى رهى
زانكه حق كفتت كلو من رزقه
رزق حق حكمت بود در مرتبت
كان كلو كيرت نباشد عاقبت
اين دهان بستى دهانى بازشد
كه خورنده لقمهاى رازشد
كر زشير ديوتن را وا برى
در فطام او بسى حكمت خورى
نسأل الله فيضه وعطاه بحق مصطفاه.
﴿شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ﴾ شرع بمعنى سن وجعل سنة وطريقاً واضحاً ؛ أي : سن الله لكم يا أمة محمد من التوحيد ودين الإسلام وأصول الشرائع والأحكام.
وبالفارسية :(وراه روشن ساخت شمار ازدين).
﴿مَا وَصَّى بِه نُوحًا﴾ التوصية وصيت :(كردن وفرمودن)، والوصية : التقدم إلى الغير بما يعمل به مقترناً بوعظه ؛ أي : أمر به نوحاً أمراً مؤكداً، فإن التوصية معربة عن تأكيد الأمر والاعتناء بشأن المأمور به قدم نوح عليه السلام ؛ لأنه أول أنبياء الشريعة ؛ فإنه أول من أوحى إليه الحلال والحرام وأول من أوحي إليه تحريم الأمهات والأخوات والبنات وسائر ذوات المحارم، فبقيت تلك الحرمة إلى هذا الآن.