﴿وَالَّذِى أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ﴾ ؛ أي : وشرع لكم الذي أوحينا إلى محمد عليه السلام، وتغيير التوصية إلى الإيحاء في جانب النبي ﷺ للتصريح برسالته القامع لإنكار الكفرة، والالتفات إلى نون العظمة لإظهار كمال الاعتناء بإيحائه، وهو السر في تقديمه على ما بعده مع تقدمه عليه زماناً، وتقديم توصية نوح للمسارعة إلى بيان كون المشروع لهم ديناً قديماً، والتعبير بالأصل في الموصولات، وهو الذي للتعظيم وتوجيه الخطاب إليه عليه السلام بطريق التلوين للتشريف والتنبيه على أنه تعالى شرعه لهم على لسانه.
﴿وَمَا وَصَّيْنَا بِه إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَىا﴾ وجه تخصيص هؤلاء الخمسة بالذكر، أنهم أكابر الأنبياء ومشاهيرهم من أولي العزم وأصحاب الشرائع العظيمة والأتباع الكثيرة.
﴿أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ﴾ محله النصب على أنه بدل من مفعول شرع، والمعطوفين عليه أو رفع على الاستئناف ؛ كأنه قيل : وما ذلك المشروع المشترك بين هؤلاء الرسل، فقيل : هو إقامة الدين ؛ أي : دين الإسلام الذي هو توحيد الله وطاعته والإيمان بكتبه ورسله، وباليوم الآخر وسائر ما يكون الرجل به مؤمناً.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٢٨٥
والمراد : بإقامته تعديل أركانه وحفظه من أن يقع فيه زيغ، أو المواظبة عليه والتشمر له.
﴿وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ﴾ في الدين الذي هو عبارة عن الأصول والخطاب متوجه إلى أمته عليه السلام، فهذه وصية لجميع العباد.
واعلم أن الأنبياء عليهم السلام مشتركون ومثقفون في أصل الدين وجميعهم أقاموا الدين وقاموا بخدمته وداموا بالدعوة إليه، ولم يتخلفوا في ذلك، وباعتبار هذا الاتفاق والاتحاد في الأصول.
قال الله تعالى :﴿إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الاسْلَـامُ﴾ (آل عمران : ١٩) من غير تفرقة بين نبي ونبي ومختلفون في الفروع والأحكام.
قال تعالى :﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا﴾ (المائدة : ٤٨)، وهذا لاختلاف الناشىء في اختلاف الأمم وتفاوت طبائعهم لا يقدح في ذلك الاتفاق، ثم أمر عباده بإقامة الدين والاجتماع عليه ونهاهم عن التفرق فيه، فإن يد الله ونصرته مع الجماعة، وإنما يأكل الذئب الشاة البعيدة النافرة والمنفردة عن الجماعة.
أوصى حكيم أولاده عند موته، وكانوا جماعة، فقال لهم : ائتوني بعصى، فجمعها، فقال لهم : اكسروها، وهي مجموعة، فلم يقدروا على ذلك، ثم فرقها، فقال : خذوا واحدة واحدة، فاكسروها فكسروها،
٢٩٦
فقال لهم : هكذا أنتم بعدي لن تغلبوا ما اجتمعتم، فإذا تفرقتم تمكن منكم عدوكم، فأهلككم، وكذا القائمون بالدين إذا اجتمعوا على إقامته، ولم يتفرقوا فيه لم يقهرهم عدو.
وكذا الإنسان في نفسه إذا اجتمع في نفسه على إقامة الدين لم يغلبه شيطان من الإنس والجن، بما يوسوس به إليه مع مساعدة الإيمان والملك بإقامته له.
قال علي رضي الله عنه : لا تتفرقوا، فإن الجماعة رحمة والفرقة عذاب، وكونوا عباد الله إخواناً.
قال سهل : الشرائع مختلفة وشريعة نوح هو الصبر على أذى المخالفين.
انتهى.
فعلى هذا فشريعة إبراهيم عليه السلام هو الانقياد والتسليم وشريعة موسى عليه السلام هو الاشتياق إلى جمال الرب الكريم وشريعة عيسى عليه السلام هو الزهد والتجرد العظيم وشريعة نبينا عليه السلام هو الفقر الحقيقي المغبوط عند كل ذي قلب سليم كما قال :"اللهم أغنني بالافتقار إليك"، وهذه الشرائع الباطنة باقية أبداً ومن أصول الدين التوجه إلى الله تعالى بالكلية في صدق الطلب، وتزكية النفس عن الصفات الذميمة وتصفية القلب عن تعلقات الكونين وتخلية الروح بالأحلاق الربانية ومراقبة السر لكشف الحقائق وشواهد الحق، وكان نبينا عليه السلام قبل البعثة متعبداً في الفروع بشرع من قبله مطلقاً آدم وغيره وفي كلام الشيخ الأكبر قدس سره الأظهر تعبده عليه السلام قبل نبوته كان بشريعة إبراهيم عليه السلام، حتى جاءه الوحي وجاءته الرسالة، ولم يكن على ما كان عليه قومه باتفاق الأئمة، وإجماع الأمة، فالولي الكامل يجب عليه متابعة العمل بالشريعة المطهرة حتى يفتح الله له في قلبه عين الفهم عنه، فيلهم معاني القرآن، ويكون من المحدثين بفتح الدال ثم يصير إلى إرشاد الخلق.
وفي المثنوي :
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٢٨٥
لوح محفوظست اورا بيشوا
ازجه محفوظست محفوظ از خطا
نى نجومست ونه رملست ونه خواب
وحى حق والله أعلم بالصواب
﴿كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ﴾ ؛ أي : عظم وشق عليهم ﴿مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ﴾ يا محمد من التوحيد ورفض عبادة الأصنام واستبعدوه حيث قالوا : أجعل الآلهة إلهاً واحداً إن هذا الشيء عجاب.
وقال قتادة : شهادة أن لا إله إلا الله وحده، ضاق بها إبليس وجنوده، فأبى الله إلا أن يظهرها على من ناوأها ؛ أي : عادها.
﴿اللَّهُ يَجْتَبِى إِلَيْهِ مَن يَشَآءُ﴾.


الصفحة التالية
Icon